حوار مع المحامي حسن رضي: مثلاً أنا لا اتفق مع ''الوفاق'' والجمعيات التي دخلت الانتخابات
عندما تجلس إلى المحامي حسن رضي، فإنك لن تشعر بحاجتك لما يخفف عنك تكلف اللقاء الأول، ولا رسمية الجلوس والتخاطب الذي يداخل الحوارات الصحافية عادة، خصوصاً حين يكون مستضيفك تاريخاً في هيئة رجل، وتجربة مكتظة في هيئة سيرة، ومختبراً في هيئة مختبر حياة. سرعان ما ستداخلك الألفة حين تجد حسن رضي يتعنى لاستقبالك حيث غرفة سكرتيرته، يفتح باب غرفته إليك، يرحب بك للدخول، يترك ذلك الكرسي المتأنق الواقع خلف مكتبه، ويجر كرسياً آخر يضعه في مكان قريب منك، يقابلك جالساً في أريحية، سرعان ما ستشعر أنك تجلس إلى صديق أو قريب. سيبدأ هو الحديث معك من حيث أنت، وستعجب أنت سريعاً بروحه المنبسطة، وستنبسط سريعاً أيضاً، قبل أن تنتقل معه إلى الحوار حيث هو، وسريعاً أيضا وأيضاً، سيمر الوقت المحدد لحواركما، لكنك لن تشعر، وهو لن يُشعرك..
تكــــوين الناصري القومي
* من أين بدأ تكوينك السياسي والفكري؟
- منذ طفولتي كان أخي (أحمد) الناصري الاهتمام والانتماء، يأخذني معه إلى نادي العروبة. جعلني أخي أقرأ وأفكر اجتماعياً وسياسياً. فُتح فرع نادي العروبة في سترة (سمي فيما بعد نادي سترة). انضممت إلى النادي عبر أخي. التيار الناصري كان قوياً وطاغياً. في البيت يجلسنا أخي لنستمع معه إلى خطابات جمال عبدالناصر. لاتزال صورة جمال عبدالناصر موجودة .
في المرحلة الثانوية ارتبطت أكثر بعناصر حركة القوميين العرب. تعرفت على ناشط سياسي هو الأخ (مكي جمعة)، كان له أثر علي وجعلني أصبح أكثر ميلا للثقافة القومية .
كان جيلي تتنازعه التيارات السياسية الفكرية المختلفة. أحداث العالم تحرك أحاديث الشارع والشباب. أذكر طُرفة حدثت بالمناسبة. أحد الرجال البسطاء ممن نسميهم بالعامية (مخرخش) يبحث عن زوجة ولم يحصل على من تقبل به. كنا جالسين عند دكان في القرية، في كل حي دكان يجتمع فيه شباب القرية عصراً. الجميع يتوقع حدوث حرب بين أميركا والاتحاد السوفييتي بسبب التنازع على كوبا. كان صاحبنا جالساً، فسأل باللهجة الستراوية: ويش صاير؟ هالعفسة على أيشو؟ قال له أحد الشباب: ''أنت ويش فهمك، السوفيتيين والأميركان سيتحاربون، هل تعرف ما معنى أن يتحاربوا؟ إذا صارت الحرب بيموتون الناس''. قال الرجل: ''إن شاء الله تصير حرب ويموتون لرجال كِلهم وأبقى أنا والنسوان بس، وبشوف بعدها بيعرسون النسوان علي لو لا.'' ثم راح يسأل ''لكن هم متهاوشين على أيشو؟'' قالوا له: على كوبا. قال ''على كوبا؟ خل يجون البيت وبعطيهم درزن أكواب''.
ابن عمي أيضاً تأثرت به. كان متديناً جداً. قرأت وإياه كتبا دينية متقدمة كمؤلفات السيد شرف الدين والشيخ مغنية والسيد محمد باقر الصدر. صرت إذن بين تيار قومي وتيار شيعي جدا ومتدين جدا.
* كيف كانت طبيعة التدين الخمسيني والستيني؟
- كان تديناً متسامحاً يتعامل مع الجميع. لفترة طويلة من حياتي لم أكن ملتزما دينيا. عشت شابا متحرراً مفتوحة حياتي على كل شيء. نخرج ونلهو ونمرح. المتدينون ينصحون لكن لا يفرضون. كان التدين لطيفاً سمحاً لم يمارس سطوة ولا سلطة ولا رهبة. أستطيع أن أقول إن تعامل المتسامحين هو أكثر ما أثر عليّ في الرجوع إلى الالتزام الديني. دخلت فترة طويلة من عدم الالتزام الديني، لكن لم أصل يوما للإلحاد. معقول في عدم تديني. لم أترك أماكن العبادة، المأتم أذهب بانتظام. حتى أصدقائي الماركسيين أقول لهم إني قد أكون جريئاً وأتكلم في وجود الله، لكن بمجرد أن أذهب للمقبرة أخاف وأتراجع (يضحك). كنت أقرأ كتبا مختلفة الاتجاهات ومنها الماركسية، ولي علاقة وثيقة بالماركسيين الذين أحترمهم وأقدرهم وعلاقتي فيهم خاصة دائماً. هناك من حسبني على الجبهة الشعبية وكنت فعلاً صديقاً للجبهة الشعبية لكن لم أدخلها كعضو. رجعت إلى التدين في مرحلة متأخرة نسبيا. التدين بالنسبة لي هو تدين منفتح. صرت أحرص على أداء العبادات وأحاول تجنب ما يحرمه الدين لكن دون تزمت وتكفير الآخرين.
قــــصــتــــــــــي مـــــــع المحـــــــــامـــــــــــــــاة
* كيف دمج حسن رضي بين الماركسية والقومية؟
- أعتقد أني كنت دائماً قومي وديني وأحترم الماركسية. أرى الماركسية بأنها نظرية إنسانية راقية. دائماً على علاقة قوية مع الدينيين والقوميين والماركسيين ولازلت. أعتقد أن الجميع يصب في مصلحة الإنسان، علينا فقط أن نضبط المسارات والحرص على عدم التعارض مع الدين.
لا أرى غضاضة في القول إن الدين حق ولازم، والماركسية نظرية إنسانية راقية لكن مع الضوابط التي ذكرت، لكن علينا أن نوازن. أنا ليبرالي التفكير، لست مع نظرية حكم حزب. لست مع حكم فئة أو شخص. بل مع الحكم الديمقراطي. علينا أن نتعايش جميعاً ونتناقش ونتحاور. في قناعتي السياسية أجد أن الديمقراطية هي الحل. الديمقراطية القائمة على حرية الشعب وخياراته كنظام إدارة دولة. أما فيما يتعلق بالعقيدة فلا توجد وسيلة للاقتناع بالعقيدة الصحيحة إلا في وجود جو ديمقراطي حر. ليس الديمقراطية فقط من حيث السلطة، بل حتى من حيث الشارع والمجتمع والناس. أعني أن لا تكون في اعتقادك واقعا تحت ضغط هيمنة أو تخويف أو إغراء، بل أن تكون منطلقاً من قناعتك الشخصية، وهذا لا يحدث إلا في ظل نظام سياسي حر ونظام مجتمعي حر أيضاً، مجتمع لا يفتك (نظامه ولا أفراده) بالمختلفين معهم بالفعل أو القول.
* وكيف كان توجهك إلى المحاماة؟
- قصتي مع المحاماة مختلفة. لم يكن توجهي حقوقي بالأصل بل فلسفي. اختلاط القراءات القومية والدينية والماركسية واليسارية في فترة مبكرة من عمري، جعلني أميل نحو الأفكار والفلسفات.
انشغلت فلسفياً في نحو العشرين من عمري وبعد 7 سنوات من العمل في بابكو، قررت ترك العمل ومواصلة دراستي في الخارج، ورغم حاجة عائلتي لوظيفتي، إلا أني تحديت هذه الظروف، جمعت مبلغاً من المال وعزمت على السفر. كان توجهي للفلسفة..
العام 7019 سافرت للدراسة، انتقلت بين القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت. أزعجني ما رأيت هناك من عدم النضج والعداء بين طلبة التيارات المختلفة. لم أحب هذا العداء. كان لي صديق يدرس في المغرب (الآن هو القاضي الأخ أحمد كمال)، امتدح لي الدراسة في المغرب. من بيروت ذهبت إلى المغرب. لم تكن الدراسة باللغة العربية. كل شيء يدرّس باللغة الفرنسية. الفلسفة وحتى الأدب العربي كان لابد فيه من الإلمام باللغة الفرنسية، التخصص الوحيد الموجود باللغة العربية هو القانون. اخترت القانون من هنا. صرت مكرها أن أختار القانون لا بطلاً. في المغرب استفدت كثيراً من طريقة التعامل بين المختلفين. أناس مختلفون لكنهم متعايشون. في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب كان هناك الإسلاميون والشيوعيون واليساريون، لهم اجتماعاتهم ونقاشاتهم بشكل راق، وهناك اختلاف في الآراء، لكن الاحترام هو الأصل.
بعد عامين عدت إلى البحرين. في هذه الفترة تحركت مجموعة من الشباب على رأسهم المرحوم هشام الشهابي، عبدالله مطيويع، حبيب عواجي، ويوسف يتيم وجماعة من اليسار من الجبهة الشعبية وجبهة التحرير، تحرك هؤلاء على اتحاد عام للعمال. لم أكن أعرف حينها فكرة الاتحاد، نشطت معهم نشاطا كبيرا كانت نتيجته أخذي إلى السجن
* وماذا كانت تهمتك حينها؟
- التركيز على نشاطي في الاتحاد. كانوا يحسبوني على الجبهة الشعبية. وأنا لم أنضم إليها عضواً فعلاً. كنت مناصراً ومنحازاً سياسياً فقط. تعرضت إلى شيء من التعذيب. ولكني لا أدّعي البطولة، فأقول بصراحة إنني قد صمدت لأنه لم يكن لديّ شيء لأقوله. لا أعرف لو كانت لدي معلومات فعلاً كيف سيسير بي الوضع، ولا كيف سأتحمل. (يضحك). نشاطي مكشوف، نأتي المنامة نشارك في المظاهرات. لست في الصف الأول، ولست بارزاً، ولم أكن في المنامة أو المحرق حيث القيادات. تم التحقيق معي لفترة قصيرة جداً.
* هل مررت بمرحلة العمل السري؟
- تقريباً لا، في فترة قصيرة جداً ربما هي مرحلة التثقيف في 1965 نشطنا نشاطاً حقيقياً بعد انتهاء الحوادث وبعد أن تم اعتقال المنظمين الكبار. كانت لدي سيارة استخدمت في توزيع المنشورات. يأخذها أحدهم ويقوم بتوزيع المنشورات باستخدامها. حققوا معي لمدة يوم واحد بخصوصها.
في العام 1971 عملت في سيتي بنك مع إدارة أميركية. في أيامي الأولى أدخلني نشاطي وحماسي في بعض المصادمات مع بعض الأفراد في الإدارة العليا للبنك. ثم قاموا بترقيتي ربما لأغير مواقفي. ترقيت لكن لم أغير موقفي. لما أن اعتقلت. بقيت 3 شهور داخل السجن. خرجت وقد قررت أن أستقيل. كان مدير البنك منفتح العقل أخبرني أنهم تابعوا موضوع التحقيق معي ورأوه «كلام فاضي». تعرضت للتعذيب، لكنه لم يكن مما يذكر في القسوة. يريدون معلومات ولم يكونوا يبحثون عن اختلاق روايات. لم يكن لدي شيء مخفي. لهذا أفرجوا عني بعد أن عرفوا أني لا أمتلك معلومات من النوع الذي يريدونه. معي كان علي الشيراوي وجليل السعد في زنزانة، وكان من رفاق السجن أحمد سند، يوسف يتيم، أحمد الشملان، علي ضيف، وعباس عواجي، وبدر ملك وآخرين. ولا أخفيكم أننا لم نكن مستعجلين على مغادرة السجن. السجن محتمل واللمة نوعية. خرجت من السجن وقررت العودة للمغرب. أنهيت دراستي في الحقوق وعدت البحرين في .1974 في المطار تم سحب جواز سفري من قبل المخابرات.
وعـــــــــاد لـــــــــي جــــــــــواز سـفــــــــــري
* وأين عملت بعد انتهائك من الدراسة؟
- لم أشتغل في مجال تخصصي. عملت في شركة «بريتش بتروليوم» ممثل مبيعات. صارت تربطني علاقة طيبة وحميمة برئيس الدائرة التي أعمل تحتها في الشركة (مايكل فيليبس)، ناداني ذات مرة وقال لي إنه راض عني وإنه سيقوم بترقيتي إلى مسؤول مبيعات الخليج، بحيث أكون مسؤولاً عن التسويق من الكويت إلى عُمان. شكرته لكني اعتذرت عن قبول الترقية. سألني لماذا؟ أجبته بأن جواز سفري محجوز ولا أستطيع السفر. سألني عن السبب. أخبرته أنني متهم بالعمل في السياسة. استفسر عن الشخص أو الجهة التي تحتجز جواز سفري. أجبته بخبث متعمد: مستر هندرسون من (ديرتكم). قال: أنا أعرف هندرسون، هل أنت ارتكبت جريمة وأخذوك إلى المحاكمة. قلت لا. قال بتعجب: ضابط شرطة يحتجز جواز سفرك؟! قلت: هذا ما حدث. قال: أنا أريدك لهذه الوظيفة. ثم طلب من سكرتيرته الاتصال بالداخلية وتحدث مع شخص أعتقد أنه كان هندرسون واحتد الكلام بينهما فطلب مني الانتظار في الخارج. ثم ناداني وأخبرني أن أذهب لتسلّم جوازي.
بقينا فترة هنا في البحرين ثم تقرر نقل إدارة الشركة إلى دبي. وهناك استقرت أموري بشكل كبير. بقيت فيها أكثر من عام ونصف. ناداني ذات مرة رئيسي (مايكل فيليبس) وقال لي «سأرقيك. أنت قانوني، وسأنقلك إلى إدارة شؤون الموظفين، في وظيفة مراقب حاليا لكي تتدرب إلى أن تصير مديراً لشئون الموظفين». الإدارة في دبي تغطي المنطقة كلها.
في هذه الفترة أنجز الشيخ عيسى بن محمد الذي كان وزير العمل في البحرين مشروع اللجان العمالية المشتركة. فصار لكل شركة لجنة عمال يرأسها رئيس أو المسؤول عن شؤون الموظفين فيها. وصار من الطبيعي أن أكون أنا رئيس اللجنة العمالية الخاصة بالشركة. العلاقة بين الموظفين والشركة التي أعمل فيها ليس بها أي خلافات، بل على العكس. أتيت البحرين من دبي لمدة يوم واحد لحضور اجتماع اللجنة العمالية المشتركة. الصديق يوسف حسن في اللجنة ممثلاً عن العمال، وأنا الآن أمثل الشركة. كنا نحن الاثنين في يوم من الأيام أعضاء اللجنة التأسيسية لاتحاد العمال. في الاجتماع قال لي يوسف كلمة قلبت كياني. قال: الله.. من زعيم للعمال إلى ممثل الشركة؟! هو قالها بشكل عابر ومن دون قصد، لكني ارتبكت إزاء هذه العبارة من حيث هو لا يدري. كل شيء في داخلي تبعثر. عدت وقد قررت أن أستقيل. قلت لنفسي: هل هذه بداية الدخول في تناقض مع مبادئي وتاريخي؟ قدمت استقالتي. مايكل فيلبس تعجب من قراري لكنه احترمه.
في العام 1976 قدمنا (جاسم المطوع وعلي الأيوبي وأنا) طلباً لترخيص محاماة، لكنه رُفض. القرار يجب أن يمر عبر المخابرات. حاولنا بكل الطرق وبقي طلبنا مرفوضاً. بقينا فترة قدمت فيها للعمل في «كريماكنزي»، طلبوا مني الذهاب للداخلية فصرفت النظر عن الوظيفة لأني أعرف أنهم سيرفضوني. كانت الوظيفة إدارية. بقينا هكذا إلى أن تغير وزير العدل وتم تعيين الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة. طلب لقاءنا واحداً واحداً. سألني في اللقاء: ما موضوعك؟ قلت له كل ما في الأمر أني كنت في اتحاد العمال، وأريد الآن أن أفتح مكتب محاماة ولم يسمح لي. قرأ لي خطاب هندرسون الذي يوصي فيه بعدم ترخيصي. سألني ما رأيك في هذا الخطاب. قلت «كلام سخيف. لنفترض أني اشتغلت في السياسة وعملت مشكلات هل ممنوع أن آكل وأعمل؟». قال «كلامك صحيح. أنت الآن محامٍ مرخص». الأمر نفسه تكرر مع المحامين الآخرين. بعدها سُمح لنا بفتح مكاتب محاماة.
هنا بدأت جمعية المحامين ونشاطات الجمعية.. عبدالله المدني كان على رأس التيار الديني. حميد صنقور على رأس التيار الليبرالي، جاسم المطوع ومحمد السيد على رأس التيار اليساري. ورغم الخلاف العقائدي الواضح بين هؤلاء، إلا أن الألفة والاتفاق على الموضوعات المهنية والوطنية العامة كان الجامع. تم انتخاب المرحوم الأستاذ حميد صنقور رئيساً لجمعية المحامين. كنا ملتفين حوله جميعاً. وتم اختيار عبدالله المدني أميناً لسر الجمعية.
مقتـــل المـــــدني
* كيف كانت علاقة عبدالله المدني باليساريين والماركسيين؟
- لم أكن متديناً في هذه الفترة، لكني كنت أحترم أخلاق عبدالله المدني بشكل كبير. لا تشعر أن عبدالله المدني يعادي أحداً. يتكلم في الدين نعم، وينصح، لغته هادئة جداً، لا أزال أتذكر هدوءه حين يتكلم، ومع اختلافك معه لا يوجد شعور بالكراهية، حتى الجيل الذي أتى بعده من المتدينين مثل الأخ عبدالله الشملاوي والأخ عباس الشيخ منصور وبعض الذين يعدون امتداداً له، كان التسامح طبعهم، والترحيب بالتعامل مع الآخر. الأمر ذاته بالنسبة لليساريين مثل الأخ جاسم المطوع في قمة العقل والتأدب والتسامح، وكذلك الأخ علي الأيوبي، لم يكن في بداية تأسيس الجمعية من الواضح على أحد أنه محسوب على الجبهة الشعبية إلا في مرحلة لاحقة. كنت متأثراً لحد ما بحميد صنقور لأني معجب به وبعقله الليبرالي المفتوح الأوربي، وأعمل في مكتبه، لكني كنت حينها أكثر ارتباطاً وميلاً لليسار.
* حدثنا عن تلقيك لمقتل المدني ودورك في الدفاع عن المتهمين حينها؟
- مقتل المدني أصابني بإحباط شديد وخيبة، والاتهامات أصابتني بخيبة أكثر، لأن بعض المتهمين أصدقاء أيضاً. المتهم الرئيسي (أحمد مكي) كنت على معرفة به. الأسماء الواردة في التحقيق مثل عبدالنبي العرادي هو صديق أيضاً. أشعر أن الاتهام في غير محله وغير صحيح. دافعنا الأستاذ حميد وأنا عن أحمد مكي. عملت بحماس في الدفاع، لكني كنت حزيناً لمقتل عبدالله المدني. تمنيت دائماً وأنا أعمل على الدفاع أن يكون هؤلاء فعلاً أبرياء من قتل المدني. مازلت مقتنعاً تمام الاقتناع أن هؤلاء ليسوا هم القتلة، وأن أحداً ما أراد أن يحطم العلاقات بين المختلفين عقائدياً. لا أستطيع أن أقول إنها الحكومة، ولا أعتقد. الذين تم اتهامهم ثوريون نعم، لكن ليس لدرجة العنف والقتل. أنا أعرفهم وأعرف أن نفسياتهم ليست مهيأة أن تأخذ أحداً إلى البر وتقتله. صعب تصديق هذا عندي. لا يتفق مع معرفتي بهم.. الجميع كان يتعامل بود وإخلاص. قضية المدني خلقت عداء. قبل قضية المدني لم يوجد هذا القدر من العداء، كان اختلافاً فقط. الجهة التي نفذت العملية من الواضح أنها حققت غرضها. قتل المدني أحدث هذا الانشقاق والعداء.
* بماذا تم الحُكم على أحمد مكي؟
- لا أتذكر الحكم بالضبط.
* ما الذي أعطى مكتبك المحاماة هذه السمعة؟
- في نهاية 77 اتصلت بي مؤسسة أميركية للمحاماة. كان لهم أثر أيضاً كبير في تكويني المهني بعد استاذي الأول حميد صنقور. في تلك السنوات لم يكن مسموحاً للمحامين الأجانب العمل دون شريك بحريني. أتت هذه الشركة مع زميل آخر، لكنهم اختلفوا معه. لكنهم اختلفوا معه، رشحت لهم أسماء للإشتراك معهم وكنت بين المرشحين. مبتدئش للتو. اختاروني وقرروا أن (يتبنوني) ويدربوني. مؤسسة أميركية عملاقة اسمها (كودير براذرز). أخذوني إلى نيويورك في تدريب عملي لمدة 3 أشهر للتهيئة والتكوين، ثم أخذوني جولة لمدة أسبوع في كل مكتب من مكاتبهم الرئيسية: مكتب لندن، مكتب نيويورك، مكتب باريس، مكتب طوكيو، هونغ كونغ وسنغافورة. ثم عدت هنا، وتم افتتاح مكتب لهم بالتعاون معي باسم (كودير براذرز بالاشتراك مع حسن رضي). بقي مكتبي كوحدة لعمل المحاكم، لكن فيما يخص العمل الاستشاري كانوا هم من يقومون به. كنت بالنسبة لهم اسم لازم للترخيص ومستشار فيما يتعلق بالقانون البحريني.
الطريف أنهم عندما قدموا الطلب هنا (بعد توقيع العقد) للحصول على الموافقة، كان اسمي لا يزال في القائمة السوداء، تم رفض اسمي وقالوا لهم ابحثوا عن شريك آخر. طلبوا فرصة للتفكير. جاءني الشخص المسؤول، وقال لي نحن وقعنا العقد، فكيف ستسير الأمور فيما لو فسخنا العقد؟ قلت لهم: سينتهي كل شيء ونبقى أصدقاء. قال: هل أنت متأكد؟ قلت ''أكيد، فالموضوع خارج عن إرادتك، أنا لا أريد منكم أن تتخذوا موقفا من أجلي. هذه شروطهم وأنتم تريدون العمل''. اتصل بي هذا المسؤول بعد يومين، وقال لي قرار المؤسسة صدر ''بأننا إما أن نكون معك أو نترك البلد. نحن من نختار شريكنا''. هكذا حدث ورخصوا وبقوا هنا. كان لهذا أثر كبير في بناء طريقة عملي. بدأت بالطريقة الأميركية. نبدأ منذ الصباح الباكر ونستمر حتى المساء. غذائي شطيرة وأنا على هذه الطاولة. العمل لساعات طويلة والتركيز برغبة. أتعلم الجديد يومياً ومازلت. من يعملون اليوم معي في المكتب يتكونون بالطريقة ذاتها. من لا يتحمل المشقة ينسحب سريعاً ويمضي. الجميع هنا يعملون بالطريقة ذاتها. ابنتي نور تعمل هنا. البعض ظنّ أنني سأدللها. هي تعمل أكثر. تأتي صباحاً مبكرة ولا تغادر قبل وقت متأخر في المساء في غالب الأحيان. صارت هذه ثقافة العمل في هذا المكتب. ربما هي ثقافة قاسية وصعبة الاحتمال، لكن الأمور هنا تسير كذلك.
حصلت على الدكتوراه من جامعة لندن. قدمت أولاً في جامعة القاهرة، وقدمت للماجستير هناك ولم أوفق. لم أرسب طوال عمري. ذهبت واستفسرت قيل لي أن النسبة التي حصلت عليها لم تؤهلني للنجاح. قررت أن أستكمل دراستي العليا في جامعة من أفضل جامعات العالم. التحقت بجامعة لندن. قابلني عميد كلية الدراسات الشرقية والإفريقية وسألني هل أنت متأكد أنك تريد أن تدرس هنا؟ الدراسة هنا معقدة وتوجد جامعات أسهل بكثير. قلت له: إما أن أنال الدكتوراه من هنا أو لن أستكمل دراستي بتاتا. كان الأمر تحدياً بالنسبة لي، فكان ذلك..
هكـــذا استقلــت مـــن لجـنــــــة الميـثـــــاق
* أخبرنا عن طبيعة عملك مع المعارضة؟
- أنا حتى الآن أنا لا أمارس عملاً سياسياً. لا أطرح نفسي صاحب اتجاه سياسي، بل صاحب اتجاه حقوقي. تركت ممارسة العمل السياسي منذ السبعينات. هذا لا يعني أن ليست لدي مواقف سياسية، لكنني لست مشتغلا بالسياسة. لست منتم إلى أو محسوب على تيار أو جمعية سياسية. أقف مع ما يتطلبه موقفي الحقوقي أو رأيي الحقوقي. قد أعجب المعارضة وقد لا أعجبها. مثلاً أنا لا اتفق مع ''الوفاق'' والجمعيات التي دخلت الانتخابات، موقفي من الانتخابات مختلف. لست بالضرورة أؤيد حركة ''حق'' أو ''الإخاء'' في كل مواقفهم. أنا أقف مع من يتفق معي في رأيي. أرى أن التعديل الدستوري لم يتم طبقا للأصول الدستورية الصحيحة، وأنه ليس لدينا ديمقراطية حقيقية. حقوقياً، أعتقد أن للديمقراطية مقاييس غير موجودة في التنظيمات الدستورية الحالية. التعديل الدستوري لم يأت بالشكل الصحيح. لدي موقف قانوني مهني في موضوع التعديل، ولدي موقف حقوقي في حقيقة وجود الديمقراطية. هذا رأيي الخاص. الحكومة قد تعتبرني معارضا، وبعض المعارضة قد تعتبرني حكومة إلى اليوم. لدي أصدقاء من زعماء المعارضة ولدي أصدقاء وزراء أحبهم وأقدرهم جميعا وعلاقاتي بهم وثيقة وأخوية. ليست لدي مساهمات سياسية مباشرة إنما موقفي حقوقي. إذا اعتقل أحد بسبب رأيه أدافع عنه كائناً من كان. دافعت ومازلت عن المنتمين للتيارات الدينية، ودافعت عن الجماعة التي اعتقلت باعتبارهم شيوعيين، ودافعت عن من تم اعتبارهم جبهة شعبية، واليوم لو أتى معتقلو رأي متهمون بالانتماء للـ''القاعدة'' سأدافع عنهم أيضاً، هذا التزامي المهني أمام القضاء وأمام حق الإنسان في التعبير عن نفسه. الدفاع عن معتقل الرأي عمل مقدس بالنسبة لي. أنا عملي في الأصل محامي مال وأعمال، لكن أرى أن الدفاع عن الحقوق هو عمل كل محام؛ لأنها أصول مهنتنا.
في كل مؤسسة قانونية محترمة في العالم يوجد شيء اسمه العمل التطوعي العام، أو العمل من دون مقابل. فيما يتعلق بحقوق الإنسان أعتقد أنها واجب إنساني. عقيدتي السياسية هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تبعه. أعتنق هذا المبدأ وأتبناه وأرى أنه يجب أن يطبق كائناً ما كان شكل الدولة. لا يهمني مسمى الدولة. يهمني أن يمارس النظام حكم الشعب بالشعب للشعب، أن يتداول الشعب السلطة، أن يختار الشعب إدارته، أي حكومته. الوطن عندي هو مجموعة من العناصر: أرض وشعب وثروة. أي إساءة إلى أي منهم يخل بحقوق الإنسان. الإساءة إلى الشعب، الإساءة إلى الثروة، الإساءة إلى الأرض. سواء أسمحت لمحتل أجنبي أن يحتل أرضي، أو سمحت لمحتل محلي أن يحتل أرضي، الأمر هو نفسه. لا فرق بين محتل يستولي على أرضي، ومتنفذ يستولي على الأراضي ويترك الناس بلا مأوى. الأدهى والأمر هو تجزيء الشعب وتقسيمه إلى طوائف. أقول دائماً للإخوة في المعارضة المصنفة بالشيعية بأنها يجب أن تطالب بالحقوق باعتبارها حقوق إنسان تنص عليه المواثيق والعهود الدولية - وأنا واثق أنهم يحرصون على ذلك - لا باعتبار شيعة وسنة، ولا لأن طرفاً يجب أن يغلب طرفا، هذه أمور جميعها ضد الوطن والوطنية. أنا أطلب النصر للحقوق لا النصر لأحد على أحد. أطلب الانتصار لحقي كمواطن. لا أرى أن هناك من يعاديني لكي انتصر عليه. من يقف ضد حقوق الإنسان يحارِب الإنسانية لا يحاربني أنا. قوانين العالم تنص أن الشعب يجب أن يأخذ حقه. في النظم الملكية في كل العالم العائلة الملكية احترامها وسموها لازمان باعتبارها تمثل وحدة الأمة. لهذا يجب أن نحافظ عليها، لكن الذي يحكم الأرض والثروة يفترض أن يكون هو الشعب. والتجارب كثيرة حولنا: بريطانيا والدنمارك وهولندا وبلجيكا وماليزيا وتايلند.
* ما الدور الذي لعبته في لجنة الميثاق؟
- دُعيت إلى لجنة الميثاق. ترددنا في البداية أنا والصديق علي الأيوبي. منذ أول محضر اجتماع رفضنا المسودة المعدة مسبقاً، لم نر ردود فعل. لكن بعض العناصر تمردت. رأيت مع مجموعة من الزملاء أن المسودة غير سليمة قانونياً، وأن التوجه غير صحيح. قررنا أن نستقيل. كنا ستة. اثنان سحبوا استقالتهم بعد الضغوط، وبقينا أربعة: أنا وعلي الأيوبي وعبدالله الشملاوي وعبدالعزيز أبل. رأينا وقائع أمامنا تثبت أن هناك أمورا تنجز في خارج اجتماعات اللجنة وتأتينا جاهزة. رفضنا ذلك. طالبنا أن نصيغ المسودة مجتمعين. رُفض طلبنا. أصروا على مناقشة المسودة الموجودة، فكانت استقالتنا. بعدها بلغنا أن مجموعة أخرى لمحت بالاستقالة إذا لم يتم تعديل المسودة، عُدِّل المسار إلى حد ما. طلبوا منا الرجوع ورفضنا. موقفنا كان مهنيا حقوقيا. نحن الأربعة لم نكن في خط سياسي واحد هذا دليل على أننا لم نتحرك وفق خط سياسي. كنا مشتركين في الخط المهني الحقوقي والوطني، نراها أمانة وطنية ليست سياسية، تتعلق بالحق والوطن والمواطن. ليس في الموضوع مواربة. تعرضنا لحملة إعلامية شديدة تطاولت علينا كثيراً، قبل أن يصلنا أن جلالة الملك حفظه الله أعطى توجيهاته السامية بعدم المس بالمستقيلين الذين يجب احترام موقفهم. ومنها تم توقيف الحملات الإعلامية.
الطائفـــة والجماعـــــة هـــــي الأســـــــاس
* وماذا كان رأيك بشأن التوقيع على الميثاق؟
- عندما صدر الميثاق، أذكر أن الشيخ عيسى بن محمد آل خليفة وقف في نادي العروبة، وقال علناً ''الميثاق طلع، وهذه هي المسودة، وهؤلاء الجماعة (وكان يشير إلينا)، هم الذين (فرّوا) السكّان، فصُلِّحت المسودة وظهرت بالصورة الحالية''. راجعناها (مع بعض الزملاء) ورأينا أن فيها كلاما معقولا وصحيحا. لو طبق الميثاق لكنا نحن بخير. الميثاق سليم. عملوا مسودة تصالحية. طلبنا من جماعة المعارضة أن لا تستخدم موقفنا للمزايدة؛ لأن موقف استقالتنا موقف وطني، وطلبنا من المعارضة أن لا يظهرونا بمظهر الأبطال. نحن استقلنا لأسباب وطنية وفنية. ولا نريد أن يجعل أحد منا زعماء أو ما شابه. أعتقد أني لا أفهم في السياسة كعمل. كنت أجلس مع بعض أطراف المعارضة ذات مرة حين قلت لهم ''أنا لا أفهم لحديثكم أيها السياسيون''، الواحد منهم يقول شيء ويقصد شيء آخر، يقول شيء ثم يناقض تماماً مع ما قاله. أقول دائماً لهم أنا شخص عندي موقف، رغم موقفي من الدستور، واستقالتي من لجنة الميثاق، كنت قبل ذلك أيضاً في لجنة الوساطة في التسعينيات أيام الأحداث وأقصيت منها، لكن رغم مواقفي هذه، فقد كانت علاقتي بجهات السلطة والحكومة ودية وايجابية. بالنسبة للموقف من الحكومة فإني سأقيم إيجابيتها وأرفض سلبياتها، ولست أعرف لو أن المعارضة حكمت كيف سيكون الوضع. لا يوجد أحد - على حد علمي - من المعارضة لديه برنامج سياسي واقتصادي واضح كي أؤيده أو أقف معه أو ضده. لكي أكون حزبا سياسيا يجب أن يكون لدي برنامج لا مجرد كلام عاطفي. ما لدينا كثير منه كلام عاطفي، هناك من سيدخلنا الجنة ومن سيخرجنا من الجنة، الوطن ليس هو الأساس في خطاب بعض أطراف المعارضة والموالاة كذلك، الطائفة والجماعة هي الأساس وهذه معضلة.
* حدثنا قليلاً عن لجنة الوساطة، ما دورك فيها؟
- أسميناها كذلك مجازاً، لكنها لم تكن لجنة مشكَّلة فعلا طبقا لقانون أو أداة تشريعية. كانت مجموعة دعاها الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة - رحمه الله - ورئيس الوزراء في الستينات عندما اشتدت الأحداث. كانت تضم الشيخ سليمان المدني - رحمه الله - أحمد منصور العالي، الشيخ أحمد بن الشيخ خلف العصفور، علي الصالح، عبدالنبي الشعلة، رسول الجشي، جواد حبيب، سليمان الشيخ - رحمه الله - وأنا. هذه الأسماء التي تحضرني الآن، كنا نجتمع بشكل أسبوعي تقريبا، كان العدد أكبر ثم تقلص، كنا نجتمع بغرض العمل على تهدئة الأوضاع. دخلنا في مناقشات مع القيادة السياسية متمثلة في سمو الأمير، وسمو رئيس الوزراء، ووزراء من العائلة، لم يكن هناك في اللجنة وزراء من خارج العائلة. حدث تداول في وجهات النظر، وخلافات في الرأي، تم فيما بعد استبعادنا أنا وسليمان الشيخ ورسول الجشي. استمرت اللجنة نحو سنة نحن كنا فيها أقل من نصف سنة. كانت اجتماعات خاصة، بلا نشر ولا إعلان ولا تعيينات.
* وهل حقَقَت شيئا في تلك الفترة؟
- عملياً، لا. كانت هناك محاولات. عملنا بشكل شخصي من أجل التهدئة بجهود شخصية، لكن، لم تكن هناك نتائج ملموسة.