أشرنا في التدوينة السابقة إلى مصدر فكرة فرعنة الشعب المصري العربي والهدف منها ومن إحلال المصرية الدارجة محل العربية الفصحى, كما أردفنا ذلك بالحديث عن تأثير هذه الأفكار الشاذة في المأسسة الإعلامية المصرية وهي إحدى أذرع السياسة بطبيعة الحال, ثم أنهينا حديثنا بالتأكيد على أن هذه الأفكار الشاذة لن تلبث أن تسقط بمجرد تغير الأوضاع السياسية الحالية إلى ما هو أفضل, وحين يكون هنالك ما هو أفضل لن يهرع أحد إلى الدفاتر القديمة كما يفعل التاجر المفلس, فما بالك والدفاتر الفرعونية ليست سوى كراريس مزورة تعج بالنظريات والتخمينات لا غير؟….
أضف إلى هذا أن الفراعنة ليسوا أسلاف المصريين الحاليين, فلا اللغة هي اللغة
ولا الثقافة هي الثقافة ولا الدين هو الدين ولا الدم هو الدم, هذا على افتراض أن
الفراعنة أمة من الأمم فكيف والحال أنهم ليسوا سوى مجموعة من الأسر
الملكية التي حكمت مصر القديمة حكما مستقلا قبل أن يتم احتلالها من قبل
اليونان والرومان والفرس وغيرهم.
وفي تلك المرحلة من تاريخ مصر المستقلة كان يحمل حاكم مصر المستقل لقب
“فرعون” بينما كان يحمل حاكم مصر المعين من قبل سلطة الاحتلال بعد ذلك
لقب المقوقس.
وقد حافظ حكام مصر المستقلة على هذا اللقب الملكي كما حافظ غيرهم من
الفرس والروم والمسلمين على ألقابهم الملكية على اختلف أسرهم ودولهم
وأزمنتهم.
ومثلما أنه لم يكن يطلق على عامة سكان الدولة الفارسية “أكاسرة” أو على
عامة سكان الدولة الرومانية “قياصرة” أو على عامة سكان الدولة الإسلامية ”
خلفاء” كذلك لم يمكن يطلق على عامة سكان الدولة الفرعونية “فراعنة” في أي
وقت من الأوقات, ولم يرد ذكرهم بهذه التسمية لا في الأسفار المقدسة ولا في
المصادر الأخرى وإنما كانت تتردد في تسميتهم بين الأقباط والمصريين.
وهنالك شيء آخر هام جدا تتحفنا به النقوش الملونة والحفريات والموميات حين
تأكد أن المصريين القدامى كانوا أصحاب بنية قوية وقامات طويلة وأفواه عريضة

وشفاه غليظة وكانت لهم بشرة سمراء ضاربة إلى السواد, وهي سمات بعيدة
عن سمات الشعب المصري الحالي باستثناء النوبيين الذين لا نستبعد أن يكونوا
أحفاد السكان الأصليين, كما لا نستبعد انتماء بعض الأسر الفرعونية القديمة
إليهم.
أما عامة الشعب المصري اليوم فهم أبناء الهجرات الكبرى إلى وادي النيل,
وحصيلة التمازج بين تلك الأعراق.
ومن أضخم تلك الهجرات وأشدها تأثيرا وتميزا وبقاء هجرة القبائل العربية التي
سبقت الفتح العربي الإسلامي لمصر وزامنته واستمرت بعده قادمة من الجزيرة
العربية والعراق والشام, ولم تكن هجرة أسر -كما قد يتصور البعض- ولكنها كانت
هجرة قبائل وبطون بأكملها, من استقر منها في سيناء وريف مصر وصعيدها ظل
محتفظا بنسبه, ومن انتقل للعيش في المدن الكبرى حول الدلتا أنسته المدنية
نسبه كما هو الحال في باقي الأقطار العربية.
ومع أن الظاهر هو عدم تسلل العرق العربي إلى أقباط مصر؛ لأنهم مسيحيون
ومن أسلم منهم سقطت عنه هذه التسمية -حسب العرف المصري- إلا أنني لا
أستبعد تسلل الدم العربي إلى العروق القبطية عن طريق العرب الذين هاجروا
إلى مصر قبل الفتح وظلوا على مسيحيتهم بعد وصول العرب المسلمين, وعن
طريق المسيحيين العرب الذين انتقلوا من الجزيرة العربية والشام للعيش في
مصر بعد الفتح الإسلامي.
وحتى لو لم يسلم البعض بهذا فإن عروبة الأقباط لا يثبتها أو ينفيها الدم, فمتى
ما تكلم القبطي -أو ابن أي أقلية أخرى تعيش في الوطن العربي- بالعربية كلغة
أولى وانتمى إلى ثقافتها وآمن بوحدة الهدف والمصير فهو عربي بقطع النظر عن
عرقه ودينه وطائفته.
وقبل أن أختتم هذه التدوينة أود أن أشير إلى أمرين:
الأمر الأول: يجب أن لا ننسى المقارنة بين الدعوة إلى فرعونية مصر والدعوة إلى فينقية لبنان فبينهما من التشابه ما يثري البحث العلمي في الوصول إلى حقيقة هذه الادعاءات ومن أين جاءت وإلى ماذا تهدف, ولاحظ اقتران ذلك كله بالدعوة إلى العامية الدارجة كبديل تعويضي عن اللغات الميتة لتلك الحضارات.
أما الأمر الثاني: فهو أننا لا نجد في مصر من يتحدث بلغة الفراعنة أو يحمل سماتهم أو يمارس ثقافتهم فلو كان المصريون الحاليون هم من أبناء الفراعنة لكان حالهم كحال الأشوريين في العراق على سبيل المثال؛ حيث ما زال الآشوريون يتحدثون اللغة الأشورية ويمارسون طقوسها ويحملون ثقافتها وسماتها العرقية رغم أنهم يعيشون جنبا إلى جنب مع بقية أعراق الشعب العراقي المحافظة على هويتها التاريخية بنفس الدرجة كالمندائيين والسومريين…

وهذا ينطبق أيضا على السريان في سوريا ولبنا.
والسؤال الذي ينبغي أن يجيب عنه المفترعنون: أين هم الفراعنة؟
أين دمهم ولغتهم وثقافتهم, ولماذا لم يحافظوا عليها كالآشوريين والسريان؟!.












وتحيى مصر وتحي ارض الكنانه
:icon30::icon30::icon30: