إنضمامك إلي منتديات استراحات زايد يحقق لك معرفة كل ماهو جديد في عالم الانترنت ...

انضم الينا
استراحات زايد الصفحة الرئيسية

         :: شركة نقل عفش حى الموسي (آخر رد :ريم جاسم)       :: الغش في المنام (آخر رد :نوران نور)       :: الغش في المنام (آخر رد :نوران نور)       :: حلمت اني تبرزت على نفسي (آخر رد :نوران نور)       :: تنزيل الألعاب: ثورة رقمية في عالم الترفيه (آخر رد :محمد العوضي)       :: تفسير حلم الزواج للرجل متزوج (آخر رد :نوران نور)       :: كيف اسوي مس كول موبايلي (آخر رد :نوران نور)       :: عملية التنزيل، يجب أن تبحث عن اللعبة (آخر رد :محمد العوضي)       :: متجر التطبيقات الرسمي: (آخر رد :محمد العوضي)       :: منصات للتدريس عبر الإنترنت (آخر رد :نادية معلم)      

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 07-07-2012, 12:20 AM
عضو ماسي
بيانات محروم.كوم
 رقم العضوية : 503
 تاريخ التسجيل : Dec 2007
الجنس : female
علم الدوله :
 المشاركات : 2,100,614
عدد الـنقاط :3341
 تقييم المستوى : 2139

بسم الله الرحمن الرحيم

كتب أخونا الأستاذ محمد الخيال موضوعًا ضافيًا عن الجواء الذي ورد في مُعلّقة عنترة بن شداد العبسي ، وانتهى في بحثه إلى أنه واقعٌ في الصمّان شرق الجزيرة العربية ، فكتبتُ تعليقًا على ما ذهب إليه ، وأبديتُ له بعض المآخذ على رأيه ، فتلطّف بكتابة ردٍّ أجاب فيه عن بعض ما قلت ، وأنا أشكر للأستاذ لُطفَ ردّه ، كما أشكر له ترحيبه بالنقد ، وكأنه يقول هكذا خُلُقي ، ولا بدّ للمرء من إخوانٍ أٌمناء يشاورهم ويشاورونه فيما عنده من الرأي .

وفي الحقِّ أنّ الأستاذ تناول موضِعًا من المواضع التي طالما سمع الناس بها ، وكثر سؤالهم عنها ، فـقد ورد في قصيدةٍ من عيون الشعر العربي ، ومعلّقة من معلّقاته الخالدة ، وكأنّ ذلك من فِعل الأستاذ لونٌ من ألوان إحياء الأدب ، ومذهبٌ في تحريك ما تقادم منه وعفاه الزمن ، وإخراج لبنات الأفكار من خدورها ، فصدع الأستاذ برأي جديد ، وجلُّ الناس يومئذٍ يحملون ( الجواء ) في قول عنترة بن شدّاد :
يا دار عبلةَ بالجِواء تَكلّمي ** وعمي صباحًا دارَ عبلة واسلمي
على هذا الجواء المعروف شمال بريدة ، فخالف بذلك الباحثين ، وحاول تغيير ما ألفه الناس وعرفوه ، وأحسب أنّ الأستاذ حقّق ما أراد .
ولمّا كان تحديد هذا الموضع من الأهميّة بمكان صرفتُ إليه جانبًا من عنايتي ، فكتبتُ بعض ما لاحظتُه على رأي الأستاذ في ردٍ سابق ، وقد جئت هذه المرّة لأضع بين أيديكم ما فهمتُه من قراءتي لما قيل عن هذا الموضع ، وقد خرجتُ برأي جديد ، ونتيجةٍ تخالف ما قيل من قبل ، وليس ذلك أني أوجدتُ شيئًا من العدم ، أو وقفتُ على ما لم يكن يعلم به أحدٌ قبلي ، ولكنني قابلتُ بين النصوص ، وعرضتُ بعضها على بعض حتى صرتُ إلى هذه النتيجة التي تراها بين يديك .

غير أني رأيت الأخ محمد يقول : التبس على العلماء المعاصرين تحديد هذا الجواء ، وخلطوا بينه وبين غيره . وأنا لا أدري كيف وقع له خلط هؤلاء العلماء ، فقد تأمّلتُ كلام صاحب معجم بلاد القصيم فما رأيتُ شيئًا من هذا الخلط ، وقرأتُ كلام صاحب معجم المواضع الواردة في المعلّقات العشر فلم أر شيئًا من هذا بل إنه تابع الشيخ العبودي في رأيه ، أما الشيخ حمد الجاسر ، وعبد الله الشايع ، فما تعرّضا لتحديد هذا الموضع من قريب أو بعيد ، وإنما تكلم الشايع عن الدّحرضين والديلم ، فهؤلاء هم علماء المواضع في هذا العصر ، ولا أعرف غيرهم ، لم يأتوا شيئًا مما ذكرتَه.
ولقد تعجبتُ من صنيع أخينا محمد أشدّ العجب ، وأنا إلى هذه الساعة لا أدري ما حمل الأستاذ على هذا الرأي الغريب ، وأبو بكر الأنباري شارح هذه القصيدة قد نصّ على موضع هذا الجواء فقال في شرح القصائد السبع الطوال : ( والجواء : بلدٌ يسميه أهل نجدٍ جواء عدنة ) ، فأضافه إلى عدنة ، وعدنة أرضٌ حددها العلماء تحديدًا لا غبار عليه ، فهل بعد هذا الكلام لَبْسٌ ، وقد رجع الشيخ العبودي إلى هذا الشرح ، واستفاد من هذا التحديد ، واتخذه دليلًا ، كما استعان بقول ياقوت : ( الجواء : وادٍ في ديار عبس أو أسد ، أسافل عدنة ) ، وياقوت قد نقل هذا الكلام عن نصر ، ونصرٌ كما تبيّن بعد كثرة البحث قد أخذ هذا الكلام من شرح أبي سعيد السُّكّري لديوان الحطيئة ، فقد جاء في صفحة 129 من شرح الديوان : ( ومنازل بني عبسٍ : شَرْجٌ ، والقصيم ، والجوى ( الجواء ) ، وهي أسافل عدنة ) ، فهذان نصان صريحان عن عالمين جليلين ، وإمامين ثقتين ، غير أنّ الذي قد يشكل هو قول أبي بكرٍ : ( والجواء : بلدٌ يسميه أهل نجدٍ جواء عدنة ) ، فقوله إنّ أهل نجدٍ تسميه جواء عدنة بصيغة الإضافة يوحي بأنهم يميّزون بينه وبين جواء آخر ، وقد وقفتُ على جواءٍ آخر ، هو أدخل في مسمى عدنة من هذا الجواء المعروف ، وهو الذي ذكره زهير بن أبي سُلمى الشاعر الجاهلي في قوله :

عَفَا مِنْ آلِ فاطِمةَ الجِــــــــواءُ ** فَيَمْنٌ فالقَوَادِمُ فالحِسَاءُ
فذُوهاشِ ، فمِيثُ عُرَيْتِناتٍ ** عَفَتْها الرِّيحُ بعدكَ والسماءُ
فذَرْوَة فالجِناب كأنّ خنس النـ** نعاج الطاويات به المُلاءُ

وهذا كما يتبيّن من هذه المواضع واقع غرب محافظة الشملي أو بقربها ، في منطقة حائل ، إلا أنه غير معروف الآن ، ولكن الدليل على وجوده في تلك الجهة ، أنّ زهيرًا قرنه بمواضع لا زالتْ معروفةً هناك مثل يمْن والقوادم ( القوائم ) وذي هاش ، واقتران هذا الجواء بعريتناتٍ ، دليلٌ على كونه في عدنة أو بقربه ، فإن ياقوتًا قال ( قال أبو عبيدة : في عدنة : عُرَيْتِنات ، وأُقُر ، والزَّوراء ، وكُنيب ، وعُراعر ، مياه مُرّة ) .
وقال البكري : ( قال أبو عبيد : في عدنة : ذو أُرُل جبل ، وفيها أُقُر ، وعُرَيْتنات ، والزوراء ، وكنيب ، وعُراعر ، وجُشّ أعيار ، والعريمة ، والعريم ، كلهن لبني فزارة ، إلا الزوراءَ فإنها لبني أسد ، وهي كلها مياه مرة ، فهي التي يُقال لها : الأملاح ، والأمرار ) .
فالجواء الذي قرن بشيءٍ داخلٍ في ( عدنة ) أولى بالإضافة إلى عدنة من الجواء الذي قيل بأنه في أسافلها ، كما أنّا لو قلنا إنّ الجواء المعروف هو جواء عدنة ، فماذا نسمي هذا الجواء ، وهو أدنى إلى عدنة منه . وقد تحرّيتُ موضع عريتناتٍ التي قيل إنها في أرض عدنة عسى أن أهتدي إلى مكان الجواء ، كما حاولتُ تحديد هذه المواضع التي قيل إنها في عدنة ، فقد رأيتُ أنّ من تمام تحديد عريتنات تحديد المواضع التي قيل إنها أيضًا واقعةٌ في عدنة ، ولأني حين رجعتُ إلى معجم شمال المملكة للشيخ حمد الجاسر ، وجدتُ أنّ تحديده لهذه المواضع يحتاج إلى نظر ، فنظرت أولاً في الأماكن التي قيل إنها في عدنة وهي كالتالي كما في مُعجم البكري :
1 – ذو أُرُل .
2 – أُقُر .

3 – عُرَيْتنات .

4 – الزوراء .

5 – كُنيْب .

6 – عُراعر .

7 – جُشّ أعيار ، وهذا لن نتطرق إليه لأنه لا يزالُ معروفًا .

8 – العريم أو العريمة .

هذه هي المواضع التي قيل إنها في عدنة ، وفي عدنة غيرها ولكننا تناولنا هذه لأنها وردت في نصٍّ واحدٍ وذلك يعينُ على معرفة عُريتنات ، وقبل هذا فقد قيل في تحديد عدنة : ( عدنة : أرض لبني فزارة شمالي الشربّة ، يقطع بينهما وادي الرمة ) . قال ذلك البكري .
وقال ياقوت : ( عدنة موضع في نجد في جهة الشمال من الشربّة ، قال الأصمعي في تحديد نجد : ووادي الرمة يقطع بين عدنة والشربة ، فإذا جزعت الرمة مشرقا أخذت في الشربة ، وإذا جزعت الرمة إلى الشمال أخذت في عدنة ) . قال الشيخ حمد الجاسر : وكلمة ( مُشرِّقا ) أرى صوابها : مُغرِّبا ، إذ الشربّة تقع جنوب غرب وادي الرمة فيما بينه وبين وادي الجريب ( الجرير الآن ) .
وعلى ما تقدّم من أقوال المتقدمين فعدنة تشمل الأرض الواسعة ، الواقعة شمال وادي الرمة ، حيث تفيض الحرار شَرقًا ، إلى أطراف الرمال الواقعة غرب جبال أجأ ، ومن الشرق ما غرّب عن رمّان . وفيها قرى ومناهل كثيرة . انتهى وقال نحوًا من ذلك صاحب معجم بلاد القصيم . هذه هي أرض عدنة إذا ذكرت .

ولننظر كما قلنا في المواضع التي عدّها أبو عبيدة من مياه عدنة فأول ذلك :

-1-
( ذو أٌرُل )


وسأكتفي بما نقله الجاسر عما قيل عنه :
قال النابغة :
وهبّت الريح من تلقاء ذي أُرُل ** تزجي مع الليل من صُرّادها صِرَما
وقال زيد الخيل :

صبحن الخيل مُرّة مُسنفات ** بذي أرل ، وحيّ بني بجاد

وقال نصرٌ : ( أرلٌ من بلاد فزارة بين الغوطة ، وجبل صُبْح على مهبّ الشمال من حرّة ليلى ) .
وفي كتاب بلاد العرب : (
ونحن مع الطبيب أبي جميع ** بذي أرل ، وجئنا من مناب
أي : من بُعْد ، وأبو جميع كان فزاريّاً ، ومَسْكنه جبال صبح ( ظلماء الآن ) ، وذو أُرُل : غديرٌ يلزمُ الماء نِصفَ القيظ ، وهو من بلاد فزارة ، قال الأصمعي : ذو أُرل من بلاد غطفان ) . انتهى
وفي كتاب نَصر : ( ذو أُرل : مصنعٌ في ديار طيّء ، يحمل ماء المطر ، وعنده الشريقات ، والغريقات ، وهي أيضًا مصانع )
وفي ياقوت : قال أبو عُبيدة : ( أُرل جبل بأرض غطفان بينها وبين عُذرة ) ، وأنشد بيت النابغة المتقدم
وقال البكري ، في مراحل الطريق من فيد إلى تيماء : ( عُراعر ، ثم العبسية ، ثم ذو أرك ، ثم رقدة ، ثم خناصرة ، ثم الثمد ، ثم حدد ، ثم تيما ) انتهى
قال الجاسر : ولا شك أنّ المقصود ذو أرل باللام لا بالكاف ، قلتُ أنا وقد أصاب في إصلاح هذا التصحيف لا كما قال موزل بأنّ المراد بذلك هو أريك : لأنّ أريكًا لا يزال معروفًا باسمه قال الشاعر :

عفا مَجدلٌ من أهله فمتالع ** فمِطلا أُريك قد خلا فالمصانع

وأما قول الخطيب التبريزي في كتاب ( الموضح في شرح شعر أبي الطيب ) بأنّ هذا البيت أي بيت النابغة : وهبّت الريح ، يُروى أرلُ باللام ، وأرك الكاف ، فهو مخالفٌ لرواية الديوان ، فالشاعر إما أنّه قال أرل أو قال أرك وليس ثم موضع يسمى أرك ، بلى ذكر البكري ذو أرك الذي نرى أنه ذو أرل ، ولكنك لا تجد موضعًا يسمى ذو أرك بإضافة ( ذو ) فإن قيل إنّ بيت النابغة هو شاهده كما ذكر التبريزي من أنه يروى أرك ، قلنا إنّ الواقع يخالف ذلك لأنه لا يوجد موضع بهذا الاسم ، كما أنّ إغفال موضع مشهور في هذه الناحية ، وذكر آخر ليس معروفًا أمرٌ غريبٌ جِدّا ، ولا سيما أنّ مكان أرُل كما يفهم من النصوص الكثيرة واقع في طريق تيماء ، فلماذا يتركه البكري ، ويذكر ما لا يعرف إلا في هذا النص . وأما جبل وريك الواقع غرب متالع فإن هذا هو اسمه القديم ولم يقل أحدٌ إنّه يسمى أركًا بإسقاط الياء كما بين ذلك الشاعر في قوله :

عفا مَجدلٌ من أهله فمتالع ** فمِطلا أُريك قد خلا فالمصانع

وقد قد انتهى الشيخ حمد الجاسر إلى أنّ ذا أُرُل هو قاع مُطرق أو أحد خبارى مُطرق ، وقال : أشهر مكانٍ هناك يلزم الماء يدعى مُطرق ، وهذا يحمل على القول بأن ذا أرل هو خبراء أو بقربها ، فليس من المستبعد إطلاق أشهر أسماء تلك الخبارى على ما حولها . انتهى كلامه .

قلتُ : قاع مُطرق الذي عنى الجاسر هو الواقع غرب الشملي بمسافة خمسين كيلو تقريبًا ، لا ثلاثين كم ذكر الشيخ ، وأنا لستُ معه في هذا، وقوله خلاف الواقع لأنّ مُطْرِقًا لا يزال معروفًا غرب الشملي بقرب أدماء ، قال ياقوت : ( أدماء موضع بين خيبر وديار طيّء ، وثمّ غدير مُطْرِق )
والعجب من الشيخ أنه عرّف بمطرقٍ ، بكلام ياقوت هذا وكأنه لم يقل من قبل إنه : ذو أرل ، والذي يظهر لي من فعل الشيخ أنّه أراد بذلك أن يبيّن أن اسم مُطْرقٍ طغى على ذي أرل وكان بالقرب منه ، وأنا لستُ معه في ذلك أيضًا ؛ لأنّ البكريّ جعل ذا أرل كما ذكرنا من مراحل الطريق إلى تيماء ، وطريق تيماء لا يمرّ بمطرق ، يمرّ شمالًا منه ، وهو بعيد عنه ، ولو رجعنا إلى كلام البكري في تحديد موقع أرل لتبيّن لنا ، فقد قال البكري : ( عُراعر ، ثم العبسية ، ثم ذو أرك ( أرل ) ، ثم رقدة ، ثم خناصرة ، ثم الثمد ، ثم حدد ، ثم تيما )
. وأنا على حذرٍ من تعداد البكري هذا كما سأبينه في الكلام على عُراعر إن شاء الله ، ولكن لأجل أنه يطابق الواقع فقد استأنستُ به ، وإن كنت غير مُطمئنٍّ إليه في المواضع الأخرى ، ونرى في هذا النصّ أنه جعل ذا أُرُلٍ عقب العبسية ، وهذا يعني أنه غربًا منها لأنه المرحلة التي تلي العبسية للمتجه إلى تيماء ، فإذا نظرنا من خلال الخارطة إلى ما يمكن أن يكون بعدها في الطريق إلى تيماء وجدنا بئرين الأول المرير ، والآخر المذيبح ، ثم تبيّن لي أنّ المرير لا ينطبق عليه قول صاحب بلاد العرب : ( وذو أُرُل : غديرٌ يلزمُ الماء نِصفَ القيظ ، وهو من بلاد فزارة ) ، فليس يوجد بالقرب منه غدير يلزمه الماء ، كما أنه لا ينطبق عليه قول نصر : ( ذو أُرل : مصنعٌ في ديار طيّء ، يحمل ماء المطر ) فهو لا يعدو أن يكون بئرين أو ثلاثة ، وبقي عندنا المُذيبح ، وبئر المُذيبح هذا يقع إلى الشرق من جبل المِسمى ، قبل آبار ثليثوّة وساحوت في بطن المسمى ، وقد كفانا صديقنا العزيز محمد الشاوي تجشم السفر إلى رؤيتة ، فقد كتب عنه ، وعن غيره من الآبار التي كانت قديًما على طريق تيماء من حائل والجبلين ، فاستفدتُ من موضوعه كثيرًا في الوصول إلى تحديد بعض المواضع التحديد الصحيح ، فبارك الله فيه ، وكنتُ قد هيّأت كلامًا في نفسي عن ذي أُرُل ، وراجعتُ بعض الكتب ، ولم أشعر بما كتبه الأخ محمد ، ولكني وقعتُ عليه صُدفةً ، ولمّا رأيتُ طبيعة أرض المذيبح لم أشك أنه ذو أرل ، ولكن لما رأيتُ صورة آبار ثليثوّة ، وساحوت تحيّرتُ بين هذه الآبار فطبيعة الثلاثة واحدة ، وحين رأيت هذه الحجارة الكبيرة المنصوبة ظننتُ أنّها المصانع التي قال عنها نصر : ( ذو أُرل : مصنعٌ في ديار طيّء ، يحمل ماء المطر ، وعنده الشريقات ، والغريقات ، وهي أيضًا مصانع ) ، وهي الحجارة التي تجعل لحبس الماء ، ولكنّه سرعان ما زالت هذه الحيرة حين بلغني أنّ ثُليثُوّة شروب ليست بمرّة أو مالحة ، لأنّه قيل في وصف ذي أرل بأنها من الأملاح والأمرار ، وبذلك لا يمكن أن تكون ذا أُرل ، ولم يبق أمامنا إلا المذيبح ، وهذا الكلام لا يكفي دليلًا أن تكون هي ذا أُرل ، فلا بد من دليل نشفع به هذا الرأي ، وهو تنزيل تلك الأقوال التي قيلت عن ذي أرل ثم ننظر إن كانت تنطبق عليها أم لا فقد قال صاحب بلاد العرب : ( وذو أُرُل : غديرٌ يلزمُ الماء نِصفَ القيظ ، وهو من بلاد فزارة ) ، ومن حُسن الحظ أنّ أخانا محمد الشاوي أتى إلى هذا المكان غبّ سماء فظهر لنا هذا الغدير بوضوح كما رأيناه في الصورة ، انظر صورة الغدير .




وهذه صورة بئر ثليثوة


وتلك مصانع ساحوت



وقال نصرٌ أيضًا : ( أرلٌ : من بلاد فزارة بين الغوطة ، وجبل صُبْح على مهبّ الشمال من حرّة ليلى ) .
وهذا الوصف يصدق على المذيبح فهو إلى جهة الشمال من الحرة ، وهو واقعٌ بين جبال صبح ( ظلماء الآن ) ، وبين الغوطة ، وهي الأرض التي تلي أجأ من الغرب .
وقال نصرٌ أيضًا : ( ذو أُرل : مصنعٌ في ديار طيّء ، يحمل ماء المطر ، وعنده الشريقات ، والغريقات ، وهي أيضًا مصانع ) ، وكذلك بئر المذيبح ففيه مصانع توجد حول الآبار ، وربّما أنهم شبّهوا الغُدُر التي تقع عنده بالمصانع التي تبتنى ، وأرى أنّ قوله : وعنده الشريقات ، والغريقات ) تصحيف ، والصحيح ما جاء في تاج العروس : ( الشُريفات ، والعرقات ) ، بالفاء الموحدة ، في الشريفات ، والعين المهملة في العرقات وبدون ياء ، والشريفات لا تزال معروفة تقع موالية له من الشرق وتسمى : شريفة ، وكذلك العرقات تسمى العرق ، وقد جاء بالإفراد في قول الشاعر :

تصعّد في بطحاء عِرقٍ كأنما ** تصعّد في أعلى أريك بسلّم

والذي يجعلنا نطمئنّ إلى أنّ هذا هو ذو أرل قول أرطاة بن سُهيّة المُرّي وهو يصف طريقه إلى بني أمية في الشام :

قواصد للوى ومُيَمِّماتٍ ** جَبا جَنَفاء قد نكّبنَ إِيْرا
تَعَسّفْنَ الجِنابَ مُنكِّباتٍ ** ذُرى دبر يُعاوِلنَ النّذيرا
ولم تَعْفُ الرِّياحُ وهنّ هُوجٌ ** بذي أُرًلٍ وبالعاه القُبورا
ولمّا أنْ بَدَت أعلام صبح ** وجوش الذيل بادرت النذيرا

لقد لفت انتباهي في هذه الأبيات قوله :

ولم تَعْفُ الرِّياحُ وهنّ هُوجٌ ** بذي أُرًلٍ وبالعاه القُبورا

وقول الأخ الشاوي عن بئر المُذيبح :
ولا زالت القبور تتناثر هناك والتي قيل لي إن لها أكثر من 150 سنة .
وفي اعتقادي أنّ هذه القبور ليس لها 150 سنة فحسب وإنما لها 1500 سنة ! ، كما أحسب أنها هي التي رآها أرطاة بن سهية في طريقه إلى الشام مرورًا بالنفود ثم تيماء ، فإن لم تكون هي بعينها فهي كما قال أبو العلاء المعري :
ربّ لَحْدٍ قد صار لَحْدًا مِرارًا ** ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
وأهم من هذا أن ننظر من خلال هذه الأبيات إلى طريقه الذي رسمه لنا ، وكيف كان مروره بذي أرل ، فذلك ما يُسلمنا إلى الموضع الصحيح لذي أرل ، فقد ذكر أوّلًا أنّه كان متّجهًا شمالًا إلى اللوى ( النفود ) ، وكانت بداية طريقه من عند جبل ( إير ) ، وهذ الجبل يقع بالقرب من جبل يثقب وقنا ، جنوب قرية الشملي ، ثم ذكر أنّه طوى هذا الجبل ، وقصد بئر جنفاء ( الشملي الآن أو هو بالقرب منه ) ، وهنا أصبحت الأرض أمامه فسيحةً ، ثم إنّه واصل سيره باتجاه الشمال إلى موضعٍ لا يزال باقٍ باسمه وهو العاه ، ويظهر أنّ ما يشمله العاه كان أوسع مما هو عليه الآن ، وهنا ذكر ذا أرل ، وقد استبعدنا أن يكون ذو أرل قبل العاه لأنه لا يجد من حيث خروجك من ( الشملي ) إلى أن تصل إلى العاه أي بئر ، وذلك ما جعلنا نطلبه شمالاً من العاه ، فإذا نظرنا في الخارطة إلى ما بعد العاه من الآبار لم نجد إلا ثلاثة إما المذيبح وإما ساحوت وثليثوّة ، وقد بلغني عن أحد الشيوخ أنّ ماء ثليثوّة ليس فيه ملوحة أو مرارة ، فاستبعدته ، لأنّ ذا أرل يعد كما ذكرنا من قبل من الأملاح والأمرار ، وأما ساحوت فلم يبلغني عن مائها شيء ، ولكني استبعدته للأدلة الأخرى التي ذكرتها من قبل فلم يبقَ إلا المذيبح ، وبذلك يتبين لنا أنّها هي ذو أُرل ، ويتبين لنا أيضًا من خلال أبيات أرطاة بن سُهية ، فساد القول بأنّ مُطْرِقًا هو ذو أرل لأنه لا يمكن للشاعر إذا وصل إلى جنفاء أن يعود إلى مُطرق ثم يرجع ثانية إلى طريقه نحو العاه ، والله أعلم ، ويبدو لي أنّ بطن المسمى الذي تقع فيه بئر ذي أرل هو ما يسمى قديمًا ببطن ذي أُرل ، فقد قال النابغة الذبياني :

فهن مستبطناتٍ بَطْنَ ذي أُرُلٍ ** يَركُضن قد قَلِقتْ عقد الأطانيب
كما نقل ذلك البكري عن الطوسي .
وقال أبو عبيدة : ( ذو أرل : جبل بأرض غطفان بينها وبين عُذرة ) .، وأرى أنّ هذا القول غير صحيح ، لأنّ ذلك يعني أنْ جبل المسمى ، هو ذو أرل ، وإذا قلنا بذلك أبطلنا أن يكون جبل المسمى هو جبل محجّر ، وكفى بهذا الرأي خطأ . فإن صح كلام أبي عبيدة فيجب أن نقول إنّ الجزء الموالي لذي أرل من جبال المسمى كان يسمّى ذا أُرل ، والله أعلم .
وهذه صورة بئر ذي أرل



-2-
( أُقُر )


وهو أحد المواضع التي قيل إنها في عدنة ، وقرنت بذي أُرُلٍ وعريتنات ، وقد كفانا الشيخ حمد الجاسر الكلام عنها ، فمن شاء معرفة ما قيل عنها ، يراجع معجم شمال المملكة له .

-3-
( عُرَيْتِنات )


وهو الموضع الذي قرنه زهير بن أبي سُلمى بالجواء الذي ذهبنا إلى أنه غير الجواء المعروف في جهة القصيم ، وجرّنا إلى الكلام عن مياه عدنة ، وقد رجعتُ بعد قراءتي قول زهير :

عفا من لآل فاطمة الجواء ** فيَمْنٌ ، فالقوادمُ ، فالحِساء
فذ وهاشٍ ، فمِيْثُ عُرَيْتناتٍ ** عفتْها الريح بعدك ، والسماء


إلى معجم شمال المملكة لأرى ما قاله عنه ، فوجدتُه لم يزد على ما قاله البكري وياقوت ، إلا أنه قال : ( ويفهم مما تقدم أن عريتناتٍ تقع شمال وادي الرمة ، في عدنة ، على مقربة من اتصال منازل قبيلتي أسد وغطفان ) . وهذا كلامٌ عامٌّ ، ومعروفٌ أنّ عدنةَ هي ما كان شمال وادي الرمة مما هو مسامتٌ للشربّة ، ولما رأيتُ أنّ الموضع غير محدّدٍ ، حاولتُ جمع كلّ ما قيل فيه ؛ لأنّه كما قلتُ قبل ذلك أحد المواضع التي قرنه زهيرٌ بالجواء ، وهو الموضع الذي أنشأنا هذا الحديث من أجله ، وجعلنا نتطرّق إلى تحقيق بعض المواضع الأخرى ، فلم أجد ما يرشدني إليه ، سوى بيت زهير وبعض الأبيات التي رأيتها في ديوان بشر بن أبي خازم الأسدي والنابغة الذبياني وهؤلاء كلّهم جاهليون ، وإليك هذه الأبيات ، وأولها ما قاله زهير :
عفا من آل فاطمة الجواء ** فيَمْنٌ فالقوادم فالحساء
فذو هاشٍ فَمِيْثُ عُرَيْتِناتٍ ** محَتْها الرِّيحُ بعدك والسماء

وقال النابغة :

قفــــــا ، فتبيّنا ، أعريتناتٍ ** توخّى الحيُّ أم أمُّـوا لُباحا

وقال بشر بن أبي خازمٍ الأسدي :

منازلُ منهم بِعُرَيْتِناتٍ ** بها الغزلان والبقر الرُّتوع
وقال يخاطب بني سعد :

فإنّ الجِزْعَ جزْعَ عُريْتِناتٍ ** وبُرْقةَ عَيْهمٍ منكم حرام
وقال أيضًا :

عفا مِنْهنَّ جِزعُ عُرَيْتناتٍ ** فصارة فالفوارع فالحساء
وقال النابغة :
غشيْتُ منازلًا بِعُرَيْتناتٍ ** فأعلى الجِزْع للحَيِّ المُبِنِّ

هذا كلّ ما وجدته من الأشعار التي قيلت فيها وإذا أعدنا النظر في هذه الأبيات قبل أن نبحث عن تحديدٍ لمكان عريتنات ، فإنّ أولّ ما يستوقفنا هو تكرّر كلمة جِزْعٍ مع عريتنات كما هو في أبيات بشر بن أبي خازم ، وبيت النابغة ، مما يدلّنا على أنّ عريتنات وادٍ إلى كونه ماء أيضًا ، لأنّ الجزع في اللغة هو ما اتسع من الوادي أو منحناه ، ويؤيد هذا قول الأنباري في شرحه لبيت بشر المتقدِّم : ( عريتنات : وادٍ ( المفضليات ) ، ويؤيّد ذلك أيضًا بيت زهيرٍ حيث يقول : ( فميْثُ عريتناتٍ ، قال ثعلب في شرح هذا البيت : (ميث جمع ميثاء ، إذا كان مسيل الماء مثل نصف الوادي ، أو ثلثيه فهي ميثاء ) . ( الشرح : 57 ) وأما قول ثعلب في شرحه لديوان زهير : ( ذو هاشٍ وعريتنات ، أرضان ) ، فهذا ليس بدقيق ، فإنّ ذا هاش واد لا يزال معروفًا ، وليس بأرض . وبهذا نعلم أنّ عريتناتٍ يطلق على شيئين ، الأول على آبار كما قال أبوعبيدة في الكلام الذي مرّ معنا في أول الموضوع إذ يقول : ( في عدنة : عُرَيْتِنات ، وأُقُر ، والزَّوراء ، وكُنيب ، وعُراعر ، مياه مُرّة ) . والآخر يُطلق على وادٍ كما يفهم من هذه الأشعار ، وكلاهما واحد فإنّ المياه قد توجد في الأودية أو إلى جانبها ، والقول بإنّ عريتنات في عدنة قول عامّ مُبهم لا حدّ له ؛ لأنّ عدنة أرضٌ واسعة فيها قرى وأودية ومناهل ، كما أنّ معرفتنا بأنّها واد ، لا يعطينا مكان عريتنات ، فما أكثر الوديان التي تضمها أرض عدنة ، وكنتُ أوّل الأمر أتحرّى عريتنات حيث ذكر زهيرٌ ذا هاشٍ ، وأطلبه في جهة يَمْنٍ والقوادم ( القوايم الآن ) ؛ لأني وجدته عطف عريتنات على ذي هاش ، فظننته هناك ، ولكن تبيّن لي أنّ الأمر ليس كذلك ، فإنّي لطول ما نظرت في الخارطة وكثرة ما بحثت علق بذهني شيء كثيرٌ من أسماء الأماكن ، فلما عدت أقرأ قول بشر :

فإنّ الجِزْعَ جِزْعَ عُريتناتٍ ** وبُرْقةَ عَيهمٍ منكم حرام

رأيته يقول بعده بقليل هذا البيت :

فباتت ليلةً وأديم يـــــومٍ ** على المِمهى يُجَزّلها الثّغام
فلمّا أسهلتْ من ذي صُباحٍ ** وسال بها المدافع والإكام

فظننتُ أنني قد رأيتهما قبل ذلك في الخارطة ، أي ( المِمهى ، وذو صُباح) ، فبادرتُ إلى الخارطة فإذا هما مثبتان في الجهة الواقعة شرق محافظة الشملي ، وعند ذلك توهمتُ أنني كشفتُ عن مكان عُريتناتٍ أو كدت ، وقلتُ ما ذكرهما في هذا الموضع إلا لقربهما من عريتنات ، وأحببتُ أن أعرف ما قيل عنهما لأنّ ذلك من غير شكٍ سوف يُدنينا إليها ، فرجعتُ إلى معجم شمال المملكة ، فلم أجده أشار إليهما ، وكنتُ ظننتُ أنه سيمهد أمامي بعض الطريق ، وما أكثر الأماكن التي أغفلها الشيخ في هذا المعجم ، كما أنه لم يذكر أحدٌ من علماء البلدان شيئًا في تحديدههما سوى الاستشهاد بالبيت من غير تعيين ، وذلك ما دعاني إلى الرحلة في طلبهما ، لأنّ معرفة ذلك ستقودنا إلى معرفة عُريتنات ، ولأجل أن أقف على بعض المواضع التي شملها هذا البحث ، فقمتُ برحلةٍ أنا وابن الأخ الأستاذ فيصل المنصور ، ووقفنا على هذه المواضع ، وأرينا ذا صُباح ( صُباحة الآن ) فلم نزل نتعجب من جودة عبارة بشرٍ ونتذوّقها حتى انتهينا إلى الممهى ، وهي قوله : فلما أسهلتْ من ذي صُباحٍ

وذلك أنك إذا أقبلتَ على ذي صُباح ، وأخذت في تلك الطُّرق توعّرت أمامك الأرض وتجهّمت ، وصارت سيّارتك لا تطأ إلا على غلظ ووعورة ، فتسمع للحجارة صوتًا من تحت العجلات كأنه الشكوى ، فإذا جاوزته وخرجت منه لانت لك الأرض وانبسطت ، فهو قول بشر:
فلمّا أسهلت من ذي صباح
وهذا معنى لا يعرفه إلا من جرّب بنفسه ، وحقّق عندنا أنّه ذو صباح ، وكان المِمهى لا يبتعد عنه سوى تسعة عشر كيلًا جنوبًا ، فسرنا في تلك الظهيرة نحوه ، وقد كنّا دخلنا صَباحًا في صُباح ، فإذا هو قاع فسيح ، وإلى الشمال منه جبال كثيرة خالطتها الرمال تسمى هضاب البرقية ، وكنت أول الأمر أظنّ أنها هي بُرقة عَيْهمٍ التي ذكره بشرٌ في قوله : .

فإنّ الجِزْعَ جِزْعَ عُريتناتٍ ** وبُرْقةَ عَيهمٍ منكم حرام


صورة تُبيّن أرض ذي صباح التي أسهلت منها خيل قوم بشر بن أبي خازم



وهذا جانبٌ من قاع الممهى الذي ذكره بشرٌ بن أبي خازم ، وذكر أنّ الخيل جعلت ترعى من الثغام الذي فيه






وتشاهد من خلفه جبال البرقية

إلا أنّ ذلك كان ظنًّا فقط ورجعنا من تلك الرّحلة لم نظفر بما جئنا له ، وهي عريتنات إلا أننا أحرزنا كَشف بعض المواضع التي لم تقيّد في المعاجم ، ووقفنا على عددٍ من الأماكن التي لها صلة بالموضوع .

**

ولا بدّ لمن أراد تحقيق مكانٍ مجهول ، أوموضعٍ مغمور أن يعرضه على الأشعار بعد أن يعرضه على المعاجم ، وأن لا يسأم من كثرة التنقير عنه ، والتفكير فيه ، فربّ كلمةٍ واحدةٍ إذا تأملها أبدت له طرفًا مما تُكِنّه المعاجم وأسلمته أزمّة الموضع ، وقادته إليه ، ولا سيّما إذا كانت تلك الكلمة في بيت من الشعر ، وقد عُدتُ مرّة أخرى إلى أبيات بشر المتقدمة وهو أكثر شاعر ذكر عريتنات وجعلتُ أقرأ القصائد من أولها إلى آخرها ، وأتأملها بيتًا بيتًا حتى عايشتُ بشرًا في بعض قصائده ، فرأيته يقول من أول القصيدة وهو يصف منازل قوم محبوبته ، بعد أن ظعنوا عنها :

ألا ظَعَن الخليْطُ غداةَ رِيْعوا ** بشَبْوةَ ، فالمطيّ بها خُضوع

ثم قال بعده بقليل :
منازلُ منهم بِعُرَيْتِناتٍ ** بها الغزلان والبقر الرُّتوع


فأحسست أنّني اقتربت منها ، وأنّ شبوة في هذا البيت كالمفتاح لعريتنات ، وكالجسرٌ يؤدي إليها ، وأدركتُ أن إحدهما قريبة من الآخرى ، وذلك أنه لمّا تعذّر عليّ التوصل إلى عريتنات ، جعلتُ أبحث عن شَبوة ؛ لأنها لا تعدو أن تكون في الموضع الذي تكون فيه عريتنات أو تكون قريبًا منه ، وبهذا سقط عنّا البحث في مساحة شاسعة من عدنة ، وصرنا نبحث في حَيِّزٍ ضيِّق حول شبوة ، ولكن أين شبوة التي تقع عندها عُريتنات ، لقد رجعتُ إلى معجم ما استعجم لأبي عُبيد البكري ، فإذا هو يذكر موضعين كلّ منهما يسمّى شَبْوة ، الأول في جنوب الجزيرة وهذا لا يزال معروفًا إلى اليوم ، والآخر موضعٌ جاء في قول عبد الرحمن بن جُهيم الأسدي :

عَفَتْ روضة الأجداد منها وقد تُرى ** بشَبْوةَ ترعى حيثُ أفضَتْ لِصابُها

وهذا الشاعر أسديٌّ ، وبشر بن أبي خازم صاحب البيت السابق أسدي أيضًا ، فأخّرتُ القول الأول القائل بأنه يقع جنوب الجزيرة لأنه ليس المقصود في شعر بشر بن أبي خازم ، وبقي الثاني وهو الذي قرنه الأسدي بروضة الأجداد ، ورضة الأجداد هذه معروفةٌ ، قال عنها الجاسر : تسمّى الآن روض ابن هادي تقع في أعلى وادي الرمة ، وههنا علمتُ أنّ عريتنات التي أبحث عنها تقع قريًبا من مجرى وادي الرمة في جهة الشمال ، حيث تبدأ عدنة ، وأنها في أعلى عدنة ، وقد بحثتُ عن شبوة في الخارطة كي أستدلّ بها على موضع عريتناتٍ ، فلم أجد شيئًا بهذا الاسم إلا أنني وجدتُ موضعًا يُسمّى شجوة بإبدال الباء جيما ، يقع ملاصقًا للحرّة في ضغنها من الشرق ، قريبًا من روض ابن هادي ( روضة الأجداد قديمًا ) فرجّحتُ أنّه شبوة ؛ لأنّ الشاعر الأسديَّ قال :

عفت روضة الأجداد منها وقد تُرى ** بشَبْوةَ ترعى حيث أفضَتْ لِصابُها
واللصاب هي المضيق في الوادي ، والشقّ في الجبل وكذلك شجوة تقع في حضن الحرة حيث تفضي أودية الحرّة ، وتكثر الشقوق في جانبها الشرقي .
وهذه صور من شجوة ( شبوة قديمًا )



وهذه لصاب شبوة ، لا تكاد العين تخطئها ، ومن الطريف أنني كنتُ أتصوّرها كذلك قبل أن أراها فكانت كذلك



وهذه بئر من آبارها الوثيقة وقد درست إلا قليلًا



ومما يدلّ على كون عريتنات في أعلى عدنة قريبًا من مجرى وادي الرمة قول النابغة الذبياني :

قفـــــا فتبيّنا أَعُرَيْتناتٍ ** توخّى الحيُّ أم أمُّــــــــوا لُباحا
والنابغة يخاطب بهذا البيت صاحبين له ، ويسألهما على جهة الشك ، بحيث لم يتبيّن له أي الموضعين قصد الحيّ ، هل أمّ عريتنات أو توخّى لُباحًا و ما ذلك إلا لتقارب ما بين هذين الموضعين ، واتصال أحدهما بالآخر ، فأين تُراه يكون لُباح ، هذا الموضع الذي لقربه من عريتنات جعل النابغة يتوهم ، ويتشكك ، ويستعين برفيقيه ، إنّ معرفتنا له سوف تدنينا من ضالّتنا كثيرًا ، ولذلك فقد رجعتُ إلى معاجم البلدان ، بحثًا عما قيل عنه ، ولكنّ المؤسف أنني لم أجد من حدّده إلا الاستشهاد بهذا البيت ، فبحثتُ عنه في دواوين الشعراء فلم أجد شيئًا .

ومن طريف ما يذكر أنني كنتُ قبل ثلاثة أشهر أسير في الطريق الذي يمرّ بروض ابن هادي إلى قرية الحائط ، وبينا أنا أسير لفت انتباهي اسم الباحة في لوحة على ذلك الطريق فلم أزل أتعجب من هذا الاسم في هذا الموضع ، وظننت أنه اسمٌ حديث ، ولم أشعر أنّه سيكون بيني بينه أكثر من هذا التعجّب ، وأنا اليوم لا أشكّ أنّ لُباحًا الذي ورد في شعر النابغة هو هذه وإن كان أهلها لا يعرفون شيئًا عن هذا أو ذاك ، ولكنّه لم يسلم من التحريف كما لم يسلم من قبله لغاط فقيل الغاط ، والعامّة تظنّ أنّ اللام لام تعريف لأنهم لو عرفوا أصلها لما قالوا الغاط ، ولقالوا اللغاط ، وكذلك الباحة .
والباحة هذه التي نرى أنها لباح لم يتكلّم عنها الشيخ حمد الجاسر وهي واقعة قرب جبل يثقب ، بين قرية الروض وقرية الحائط ، جنوب وادي الرمة ، والآن أصبحت قرية صغيرة . فإذا عرفنا أنّها هي لباح وأنها واقعةٌ جنوب مجرى وادي الرمة أدركنا أنّ عريتنات يجب أن تكون واقعةً شمالًا منها ، شمال وادي الرمة حتى تكون داخل نطاق عدنة ، وبهذا نعرف أنّ هذا الظعائن التي رآها النابغة كانت تسير في عدنة باتجاه الجنوب قادمًة من الشمال وقد قاربت أن تصل إلى وادي الرمة ، متجهةً إلى لُباح الواقع في الضفة الجنوبية من الوادي ، وذلك ليصدق عليها قول النابغة : قفا فتبيّنا ، كأنّ الأمر من الخفاء وتقارب ما بين الموضعين بحيث احتاج إلى التبيّن والتأمل وهذا ما يذكِّرنا بقوله تعالى : حتّى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، وذلك لإمكان التباس أحد الفجرين بالآخر .
وهذا يعني أنّ عريتنات هي أحد تلك الآبار الواقعة في أعلى وادي الرمة في الجهة الشمالية منه ، وهناك وادٍ يقع إلى الشمال من وادي الرمة ، يسمى ( وادي القهد ) ، وهو أحد فروع وادي الرمة العليا ، وفيه آبار مرّة تسمى آبارالقويعية ، ينطبق عليه الوصف ، وجائزٌ أن تكون عريتنات واقعة حذاء روض ابن هادي في ضفة وادي الرمة الشمالية ، وما اتصل به حيث يوجد ( وادي الضرب ) وفيه آبار قديمة تسمى ضريبان ، وله عدة شعاب تصبّ فيه يصدق عليها أيضًا أن تكون عريتنات ، وهذا الموضع واقعٌ بين شجوة التي زعمنا أنها شبوة ، وبين الباحة التي زعمنا أنها لُباح إلا أنني أرجح أن تكون عُريتنات هي وادي القهد لأنّ أجزاعه أكبر ، وأوسع ، والشعراء إنما أكثروا في عريتنات من ذكر جزعها كما فعل بِشْرٌ والنابغة وقالوا عن الجِزع : إنّه الوادي يكون له سعة تنبت الشجر وغيره ، وقالوا أيضًا : جزعة الوادي : مكان يستدير ، ويتّسع ويكون فيه شجر يراح فيه المال من القُرّ ، ويحبس فيه إذا كان جائعًا أو صادرًا أو مُخدرًا ، وقيل : الجزع هو ما اتسع من مضايق الوادي أنبت أو لم ينبت ، وقيل غير ذلك ، وهذا الوصف أشبه بوادي القهد منه بوادي الضَّرِب ، حيث يتّسع الوادي في بعض أحنائه إلى نحو ثلاثة أكيال ، كما أنّ آباره أكثر وأوثق بخلاف آبار الضرب فإنّها تخفى إذا جاء المطر ، وقد ذهبتُ لأقف عليها فقيل لي إنّ السيل قد دفنها منذ سنتين ، ولن تستدلّ عليها إلا بالقوّة - كما يقال - فتركتها ، ويؤيد ذلك من كونها شهيرة قول بشر بن أبي خازم :

سنمنعها وإن كانت بلادًا ** بها تربو الخواصر والسنام

بعد قوله :

فإنّ الجِزْعَ جزْعَ عُريْتِناتٍ ** وبُرْقةَ عَيْهمٍ منكم حرام

فسمّاها بلادًا ، مما يدلّ على سعتها ورحابتها وكذلك قوله في البيت الآخر :

منازل منهم بعريتنات ** بها الغزلان والبقر الرتوع
وعلى كلٍّ فهذا هو مكان عريتنات التي أرادها زهير بن أبي سلمى في قوله :

عفا من آل فاطمة الجواء ** فيَمْنٌ فالقوادم فالحساء
فذو هاشٍ فَمِيْثُ عُرَيْتِناتٍ ** عفَتْها الرِّيحُ بعدك والسماء


ويؤيد هذا الرأي الذي ذهبنا إليه أمور :
1 – مُطابقة الوصف لهذا المكان ، فهو معدودٌ في عدنة ، ومياهه مرّة ، ولا تكاد تجد بينها ماءٌ عذبٌ صادق العُذوبة كما أخبرني بذلك الشيخ مسعد الرشيدي
2 – أنّ زهيرًا قرنها بالحساء وهو مايعرف الآن بالعجاجة كما حققها العلامة حمد الجاسر ، وهذه تقع في وادي الرمة أسفل من عريتنات بمسافة خمسة وخمسين كيلاً تقريبا .
3 – أنّ بشرًا قرنها بشبوة ، وشبوة قد وردت في شعر رجل من بني أسد مقرونةً بروضة الأجداد ( روض ابن هادي الآن ) وهذا يدلّ على قربها منها .
4 – وجود بعض أسماء المواضع التي حدث لها شيء من التحريف كشجوة التي نرى أنها شبوة ، ولباح التي نحسبها الباحة . والله أعلم .


وهذه خارطة تبيّن موقع عريتنات وبعض المواضع التي مرّت معنا



وهذه صورة وادي الضرب الذي رجحنا أنه ليس بوادي عريتنات ، وظهر في الخلف جبل الهضب ، ولعلّه هو جبال الفوارع الذي ذكره بشرٌ في قوله :
عفا مِنْهنَّ جِزعُ عُرَيْتناتٍ ** فصارة فالفوارع فالحساء

لأنه لا يزال فيه آبارٌ تسمى الفارعي



وهذه الصورة بعث بها إليّ الأخ محمد الشاوي ، وقد سألتُه إن كان عنده صورة لوادي القهد ( عُريتنات ) سابقًا ، فجزاه الله خيًرا ، فهو ظرفٌ قد مُلئ علمًا بالمواضع ، والأماكن .



-4-
( الزَّوراء )


وهي الموضع الرابع الذي عدّه أبو عبيدة من مياه عدنة ، وقرنه بِعُرَيْتنات ، ومن المواضع التي حاول الجاسر تحديدها ، وكان مما قاله عنها بعد أن نقل كلام ياقوت ، ويفهم مما تقدّم أنّ الزوراء في أعلى بلاد بني أسد بجوار بلاد مُرّة على مقربة من فروع وادي الشعبة حيث عدنة ، وهذا الكلام الذي قاله الشيخ أصح من كلام صاحب معجم بلاد القصيم الذي ذهب إلى أنّ هذه المواضع ومن بينها الزوراء التي وردت في قول الحسين بن مطير الأسدي :

ما خفت بينهم حتى غدوا حِزقاً ** وخدرت دون من تهوى الهواديج

وأصبحت منهم ضباءُ خالية ** كما خلت منهم الزوراء فالعوج


تقع بين عُنيزة والمذنب ، وما شأن الزوراء الواقعة في عدنة بشرق نجد ، ويا بعد ما بينهما ، ولعلّه سمع بضبّاء وبني أسد ولم يدر كيف كان ذلك فزعم أنها الضبّة الواقعة بين محافظتي عنيزة والمذنب ، والشيخ حفظه الله ومتّعه بالصحة والعافية أجلّ من أيقع في مثل هذا الخطأ ، ولكنّ الله تعالى هو الذي تفرّد بالكمال ، والصحيح هو ما ذهب إليه الشيخ حمد الجاسر إلا أنّ الشيخ إذا تعذّر عليه الموضع حدّده بمثل هذا التحديد المفتوح ، وقد وجدتُ ما يُضيّق دائرة هذا التحديد ، وذلك أنّ في أعلى فروع وادي الشعبة واديًا يسمى الأزور ، إلى جانبه آبار تسمى آبار أبا مغير وأنا أحسب أنها هي آبار الزوراء ، سمّوها بالزوراء نسبة إلى وادي الأزور ، والدليل على ذلك أنّ الشاعر الأسدي قرنها بضبّاء وهناك إلى الغرب من وادي الأزور آبار تعدّ من الآبار المشهورة هناك تسمى آبار الضبيبية , وإلى جنبها جبال يقال لها الضبيبية ، ووادٍ يسمى وادي الضبيبية ، وأنا أحسب أنّ هذه هي ضبّاء التي قرنها الشاعر بالزوراء أو قريبةً منه .

-5-
( كُنَيْب )

وهذا واقع في أقصى عدنة ، ورد في قول النابغة :

زيد بن بدر حاضرٌ بعراعر ** وعلى كُنيبٍ مالك بن حمار

وهو قريبٌ من عراعر الذي سنتكلّم عنه فيما بعد إن شاء الله ، راجع معجم شمال المملكة ، ولكنّ الجاسر تجوّز حين قال : ويظهر أنّه يقع شرق الحرّة حرّة فدك على مقربة من عراعر بقرب الأمرار في أعالي وادي الشعبة غربها . وكان الأولى أن يحدّده بما هو أدنى إليه من حرّة فدك ووادي الشعبة ، إذ لا علاقة لعراعر بوادي الشعبة .

والذي يحمل على القول بأنه قريب من عراعر أنّ النابغة جعل الموضعين لرجلين من بطنٍ واحدٍ من قبيلة واحدة ؛ فمالك بن حمار ، وزيد بن بدر، كلاهما من بني شمخ من فزارة وهذا يدلّ على تقاربهما ، ويظهر لي أنّه ما يسمى الآن بآبار المرير الواقع غرب جبل متالع ، غرب الجبلين ، وذلك لأنّني حققت عراعرًا بأنه ما يعرف الآن ببئر السالمي ، وليس هناك موضعٌ يصدق عليه الوصف كآبار المُرير فهي قريبٌة من بئر السالمي التي ثبت لنا أنه بئر عراعر كما سيأتي معنا عند الكلام عنه ، ويؤيد ذلك قول ياقوت : ( عراعر وكنيب يدعيان الأمرار لمرارة مائهما ) ، فكأنّ الصفة غلبت على الاسم ، فسمي الآن بالمرير ، وهذه الآبار لا يعرف لها اسم قديم كما هو الحال فيما حولها من الآبار ، وتعدّ من أشهر الآبار في تلك الناحية وأقدمها ، انظر ، وهذا مما يدلّ على كونها آبار كُنيب . والله أعلم . انظر موقعها في الخارطة رقم ( 2 )

-6-
( عُراعِر )


وهو أشهر هذه المواضع التي قيل إنها في عدنة ، ومع هذا فقد زال اسمه ، وجهل مكانه ، وقد حاول الشيخ حمد الجاسر أن يحدده فخلط بينه وبين موضع آخر ، وذلك أنّ العلماء جعلوا ( عراعر) موضعين ، أحدهما : ( وادٍ في بلاد كلب ، والآخر : ماءٌ لبني فزارة ، وقالوا عن الماء الذي لفزارة والقائل هو الصغاني : عراعر : ماء مِلْحٌ لبني عميرة ، وهي أرضٌ سبخة قال الشاعر :

ولا ينبت المرعى سباخ عُراعر ** ولو نسلت بالماء ستة أشهر

فأتى الجاسر وقال : ويظهر من كون أرضه ذات سباخ أنه جانبٌ من وادي السرحان حيث تكثر السبخات ، وتتكون الأملاح على مقربةٍ من قُريّات المِلْح . انتهى
فيرى الشيخ أنّ عراعرًا الذي قيل إنه ماءٌ ملحٌ وأرضٌ سبِخة هو الذي في بلاد كلب ، ونسي أنّ العلماء ومنهم الصغاني قالوا عن عُراعر هذا إنه لبني عميرة ، وهؤلاء من فزارة ، وفزارة لا تنزل وادي السرحان ، وإنما تنزل عُراعر عدنة الذي يقول فيه النابغة :

زيد بن بدر حاضرٌ بعراعر ** وعلى كُنيبٍ مالك بن حمار
بل إنّ ابن الأعرابي روى البيت هكذا :

وبنو عَميرة حاضرون عراعرًا ** وعلى كُنيبٍ مالك بن حمار
فجاء الشعر صريحًا باسم عراعر أنه لبني عميرة الفزاريين ، وبهذا يتضح أنّ الذي أراده الصغاني هو عُراعر عدنة وهو الذي نبحث عنه ، لا عراعر كلب كما يرى الجاسر ، فأوصاف عراعر إذن الذي نبحث عنه هي كالتالي :
1 – يقع في عدنة
2 – من بلاد فزارة
3- ماؤه مِلْح ، فهو لذلك يعدّ من الأملاح والأمرار
4 – أرضه سبخة

وهذه أوصافٌ عامة لا تدلّ على جهة أو تحدّه بحدّ ، ولكنّ البكري رحمه الله قرّبه إلينا كثيرًا حين قال ، وهو يصف الطريق من فيد إلى تيماء : ( من فيد إلى الهتمة ، وهي عين ، ثم إلى مُليحة ، ثم إلى الشُطْنية ، أو النفيانة أيهما شئتَ ، وهما بئران بينهما مِيْل ، ثم الدُّعثور ، ثم مِيثب ، ثم البُويْرة ، ثم عُراعر ، ثم العبسية ، ثم أرك ( أرل ) ، ثم رقدة ، ثم خُناصرة ، ثم الثمد ، ويدعى ثمد الفلاة ، ثم حدد ، ثم تيماء ) .
وعلى هذا فيكون موقع عراعر بين البويرة والعبسية إلى الشرق منها ، والعبسية هذه لا تزال معروفة تسمى العبيسة تقع إلى الغرب من جبل متالع ، ولكنّ البويرة التي ذكرها غير معروفة ، إلا أنه ينبغي أن تكون قبلهما ، وقد أخطأ الشيخ حين قال إنّ هذه البويرة هي اللقيطة ؛ فاللقيطة تقع شرق أجأ ، وهذه غربها ، ولمّا لم أجد إلى الشرق من العبسية شيئًا يدلني على عراعر ، عدت أستعرض أوصاف عراعر التي حصرتُها في أربع نقاط ، فوجدتُ أن أبرز هذه الصفات ، وصفهم لأرض عراعر بأنها سبخة ، والسبخة : هي أرض ذات ملح ونّزِّ ، تسوخ فيها الأقدام ، ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر ، فطلبتُ هذه السبخة قرب العبسية وما كان شرقًا منها إلى ما وراء ذلك وإلى فيدٍ في مسافة لا تقلّ عن مئة وثمانين كيلو مترا فما وجدتُ موضعًا واحدًا بهذه الصفة فضلًا عن أن يكون في مسافة لا تتجاوز عشرين أوثلاثين كيلو مترا ، وذلك إذا قلنا إنّ بين كلّ منزل ومنزل قرابةَ ثلاثين كيلو مترا وهي المسافة التي افترضنا أن تكون بين عراعر والعبسية على أبعد تقدير ، لأنّ عدد المواضع التي بين فيدٍ والعبسية سبعة مواضع فإذا قسمناها على مئة واثنين وثمانين كيلو مترا وهي مسافة ما بين فيد والعبسية ، خرج ما معدله ستة وعشرون كيلا . ولكننا إذا تركنا البحث فيما كان واقعًا شرق العبسية وأخذنا ننظر إلى ما بعدها أي إلى الغرب منها فإننا نرى على بُعْد ستة عشر كيلو مترا فقط سباخًا مشهورةً وحولها بئرٌ معروفةٌ تسمى ( بئر السالمي ) ، ماؤها مرٌّ ، وهي في عدنة ، ومعدودة من بلاد فزارة ، فهل تكون هذا البئر وتلك السبخة هي عُراعر ؟ التي يقول فيها الشاعر :
ولا ينبت المرعى سباخ عُراعر ** ولو نسلت بالماء ستة أشهر
هذا ما أرجحه أنا ، وأترك الحكم القارئ! ، وتقديم البكري له على العبسية إنما هو وهمٌ من البكري نفسه أو من النساخ وكان حقّه التأخير، والله أعلم .

خارطة ( 2 )
وهي تبيّن موقع ( عراعر ) ، وبعض ما جاء من أسماء المواضع



وهذه صورة سباخ عراعر التي ذكرها الشاعر ، ووصفها العلماء



بئر السالمي ( عُراعر قديمًا ) ، وقد حبت إليه السبخة



-7-
( جشّ أعيار )

وهذا لا يزال معروفًا ، راجع معجم شمال المملكة.

-8-
( العريمة )
وهذه ليست ماءً وإنما هي أرض فيها مياه ، وقد ذهب اسمها إلا أنّ موضعها معروف ، وهو غرب جبل مُتالع ، لأنهم قالوا إنّ فيها العبسية والهطالة وكلاهما معروفتان غرب جبل مُتالع ، راجع معجم شمال المملكة .

***

لعلّك أيها القارئ الكريم رأيت كيف استطردنا ، حتى أوشك أن ينسيك هذا الاستطراد ما افتتحنا الموضوع لأجله ، وهو الحديث عن ( الجواء ) ، ولعلّ التعب بعد ذلك قد أخذ منك كلّ مأخذٍ ، فحدّثتك نفسك في قطع ما ابتدأتَ به ، وآثرت راحتها على هذه الصُبابة التي بقيت في نفس صاحبك ، فإن قلتَ هو ذاك ، فما أوسع عذرك ، وما أحوجني إلى مداراتك حتى تبلغ معي إلى نهاية المطاف ، فقد لاحت أعلامه ، وسطعت أنواره .
قد عرفتَ أن الذي أدخلنا تلك القِفار ، وهذه المجاهل هو ( الجواء ) الذي قال عنه زهير بن أبي سُلمى :
عفا من آل فاطمة الجواء ** فَيَمْنٌ فالقوادمُ فالحِساءُ

وقلنا نحن إنه غير الجواء المعروف في منطقة القصيم ، بما أبداه لنا هذا الشعر من المواضع التي أحاطت به وتكنّفَتْه ، وحَرِج بها من جوانبه ، حتى لم يجد مستراحًا أو متنفّسًا خارج هذه الحلقة ، ورأيت كيف أبنّا عن هذه المواضع التي طوّقته ، وسلكنا فيها مذهب : إن لم يكن هذا لهذه العلة فهو هذا لذلك السبب ، حتى أتينا على جملةٍ من المواضع ، وحتّى أصبح بيّنًا لك أنّ هذا الجواء غير جواء القصيم ، وبات واضحًا أيضًا خطأ رأي صديقنا العزيز محمد الخيال ، حين جعله في شرق الجزيرة في الصمان وما حوله ، غير أنّه بقي أمامنا سؤالان مُلِحّان ، ولا بد لنا من الإجابة عنهما ، فالسؤال الأول هو أين يقع هذا الجواء إذن ؟ والجواب عن هذا السؤال هو أن نقول بكلّ وضوحٍ إنه لا يخرج عن احتمالين لا ثالث لهما ، وهو إما أنهّ متّصلٌ بواحدٍ من هذه المواضع كاتصال يَمْنٍ بالقوادم ، وإمّا أنه منفصلٌ عنها انفصال عريتنات والحساء عن يَمْنٍ وذي هاشٍ وهو في كلا الحالتين ، لا يخرج عن أن يكون في ناحيةٍ واحدة ، كما هي العادة في ذكر المنازل عند شعراء الجاهلية ، فإن قلتَ : فإنّ هذا جائزٌ ، وهو شبيه بما تذكر ، ولكن أين يقع هذا الجواء من عدنة ، وفي أيّ جهة يكون فأقول لك إنه لا يوجد بين أيدينا أكثر من هذا البيت وليس بإمكاننا أن نسوم النصوص ما ليس في طاقتها ، أونتكلّف ما لا دليل عليه .
ولقد اجتهدتُ في تحرّي هذا الموضع ، وركبتُ في طلبه كلّ صعبٍ وذلول ، فاعتاص عليّ الوصول إليه ، وأنت إذا عرفت الذي قلنا لك لم يضرك أن لا تظفر به ، ولستَ في حاجة إلى أن تقول هو هذا ما دام أنّه ثبتَ لك وجوده ، واستقرّ عندك للذي قدمناه ، على أنّي وقفتُ على بيتٍ في شعر بشر بن أبي خازم الأسدي وبشر قد أكثر من ذكر هذه الجهات أعني جهة يَمْنٍ ، والقوادم ، وذي هاش حتى ظننتُ أنّها كانت يومًا من الأيام من بلاد بني أسد ، فمن ذلك قوله :

كأنّ قتودَها بأُبارياتٍ ** تَعَطّفهنّ مَوْشِيٌّ مُشيحُ

وهذا قريبٌ من يَمنٍ ، والقوادم ، ولا يزال يعدّ من أشهر المعالم في تلك الناحية ، ولكنّ الناس اليوم يسقطون الألف طلبًا للخفّة فيقولون ( باريات ) ، أقول وقفتُ في شعره على بيت جاء فيه ذكر الجواء مقرونًا بموضعٍ آخر يقال له : مِذنب ، فقال :

حلفتُ بربِّ الداميات نحورها ** وما ضمّ أجواز الجواء ومِذْنبُ
وهناك يوجد شرق يَمْن والقوادم ( القوايم ) ، قرب وادي هاش ، وادٍ صغير ، إلى جنبه جبيلاتٌ صغيرة يسمى كلٌ منهما المذنب ، ربّما تكون هي التي أرادها بشر ، فيصبح هذا دليلا على وجود الجواء هناك . انظر الخارطة رقم ( 3 ) .

صورة جبال القوادم ( القوايم الآن )



وفي معاجم اللغة تفسيرات عديدة للجواء ، ولعلّ من يدقق فيها يظفر بشيء من سمات هذا الجواء ، فمن ذلك ما جاء في تهذيب اللغة للأزهري ، قال: ( الجواء : موضعٌ واسع غليظٌ من الأرض ) وجاء في الصحاح : ( والجِواءُ : الواسعُ من الأودية ). وقال في المخصص : ( والجواء أرض غليظة ) ، فهذه بعض الأقوال وهي - كما رأينا - تكاد تتفق على أن الجواء هو الموضع الواسع ، وخصّه بعضهم بأنه الوادي ، وقال قومٌ هو الغليظ ، وأحسنُ هذه التعريفات قول ابن الأنباري في شرح بيت عنترة : ( الجواء جمع جو وهو البطن الواسع من الأرض في انخفاض )، وما ذكره الأزهريّ في التهذيب فإنه قال : ( الجَوُّ : ما اتّسع من الأَرض ، واطْمَأَنَّ ، وبَرَزَ ) فأضاف إلى السعة كما في الأقوال السابقة أن يكون مطمئنًّا وبارزًا ، ولا يفهم من هذا أن البروز والإطمئنان في حالٍ معًا ، فهذا لا يتصّور ، إذ لا يمكن أن يكون الشيء مرتفًا ومنخفضًا في وقتٍ واحد ، وإنما أراد أن يقول بأنّه مُطمئنّ الوسط ، بارز الجوانب ، ثم قال ( وفي بلاد العرب أَجْوِيَة كثيرة ، كل جَوٍّ منها يعرف بما نسب إِليه ، فمنهما جَوُّ غِطْرِيف ، وهو فيما بين السِّتارَيْن وبين الجماجم ( قوله : وبين الجماجم كذا بالأصل ، والذي في التكملة ، وبين الشواجن ) ، ومنها جوُّ الخُزامَى ، ومنها جَوُّ الأَحْساء ) ، وفي هذا الشقّ الأخير من الكلام عبارة هامّة وهي قوله : ( وفي بلاد العرب أَجْوِيَة كثيرة ، كل جَوٍّ منها يعرف بما نسب إِليه ... ) ، فقوله : كل جَوٍّ منها يعرف بما نسب إِليه ، يذكّرنا بجواء عدنة الذي نتكلم عنه ، في أنّه ينسب إلى ما اشتهر في ناحته ، ولا أحبّ أن أطيل في نقل كلامهم عن الجواء فالناس لا يزالون يعرفون له هذه الأوصاف ، وقد يرى الرجل الموضع الواسع ، وقد أحاطت به المرتفعات فيقول من ذات نفسه بأنّ هذا جو ، وقد كنتُ قبل أيامٍ بين ذي هاشٍ والقوايم ( القوادم ، قديمًا ) فرأيت القوادم فإذا هي في أرضٍ واسعةٍ . ويشرف عليها من الشرق ما يسمى بجيلان القوايم كما هو ظاهر في الخارطة ، ومن الغرب ما يسمّى بجال الدهسة ، وفي خلال ذلك يجرى وادي المعدى وهو من الأودية المشهورة هناك ، وقد رأيتُ غلظ أرضه وصعوبتها ، فقلتُ لعلّ هذا هو الجواء الذي أراده زهير بقوله :

عفا من آل فاطمة الجواء ** فَيَمْنٌ فالقوادمُ فالحِساءُ

هذه خارطة ( 3 ) وهي تبيّن موقع بعض الجواء والمذنب وغيرها



وهذا كلّه لا يعدو أن يكون حزرًا وتقديرًا ، وجائزٌ أن يكون غيره ، ولكن دع هذا فالأهم من ذلك كله هو السؤال الآخر وهو الذي سيعيد القضية جذعةً وهو هل هذا الجواء هو المراد بشعر عنترة ؟ أو بعبارة أخرى هل هو جواء عدنة الذي قال عنه أبو بكر : ( والجواء : بلدٌ يسميه أهل نجدٍ جواء عدنة ) ، أم هو جواء القصيم الذي لا يزال معروفًا ؟
والجواب عن هذا السؤال لا يكون ابتداءً بلا نصٍّ وبلا حُجّة وإنما يكون من خلال قراءة قصيدة عنترة ، وفهمها فهمًا سليمًا ، ودراستها دراسةً تكون فوق ما يذكره الشرّاح ، مع مُحاولةِ فَصْل معانيها بعضها من بعض ، وحَمْل أبياتٍ منها على أبيات ، وهذا يحتاج منا إلى سرد الأبيات التي ذكر فيها الجواء ، والوقوف عندها بيتًا بيتًا ، وهو أمرٌ شاقٌّ غير أني رأيتُه لازمًا عليّ ؛ لأني لا أحب للقارئ أن يبقى في حيرة من أمر هذا الجواء الذي نبتغي ترجيحه ، وإليك الأبيات :

1- يا دارَ عَبلَةَ بِـ( الجِواءِ ) تَكَلَّمي ** وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي
2 - فَوَقَفتُ فيها نـــــــاقَتي وَكَأَنَّها ** فَدَنٌ لِأَقضِيَ حـــــــــاجَةَ المُتَلَوِّمِ
3 - وَتَحُلُّ عَبلَةُ ( بِالجِواءِ )وَأَهلُنا ** بِـ(الحَزنِ ، فَالصَمّانِ ، فَالمُتَثَلَّمِ )
4 - حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقـــادَمَ عَهدُهُ ** أَقوى وَأَقفَرَ بَعدَ أُمِّ الهَيثَـــــــــمِ
5 - حَلَّت بِـ(أَرضِ الزائِرينَ ) فَأَصبَحَت ** عَسِراً عَلَيَّ طِـلابُكِ اِبنَةَ مَخرَمِ
6 - عُلِّقتُها عَرَضـــــاً وَأَقتُلُ قَـــــــومَها ** زَعماً لَعَمرُ أَبيكَ لَيسَ بِمَزعَمِ
7 - وَلَقَـــــــد نَزَلتِ فَلا تَظُنّي غَيرَهُ ** مِنّـــي بِمَنزِلَةِ المُحَبِّ المُكــرَمِ
8 - كَيفَ المَـــــزارُ وَقَد تَرَبَّعَ أَهلُها ** بِـ( عُنَيزَتَينِ ) وَأَهلُنا بـ( الغَيلَمِ )
9 - إِن كُنتِ أَزمَعتِ الفِراقَ فَإِنَّما ** زُمَّت رِكــــــــــابُكُمُ بِلَيلٍ مُظلِمِ
10 - ما راعَنــــــي إِلّا حَمولَةُ أَهلِها ** وَسطَ الدِيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمخِمِ
11 - فيهـــــــا اِثنَتانِ وَأَربَعونَ حَلوبَةً ** سوداً كَخافِيَةِ الغُرابِ الأَسحَم

ثم قال بعدها في آخر المعلقة هذان البيتان :

12 - إني عداني أن أزورك فاعلمي ** ما قد علمتِ وبعض ما لم تعلمي
13- حالت رماح ابني بغيض دونكم ** وزوت جواني الحرب من لم يُجرم


هذا ما يعنينا من القصيدة ، وقد رأيتَ أننا رقّمنا الأبيات لكي تستدلّ على أنها هكذا وردت مرتّبة في المعلّقة ، سوى البيت الثاني عشر والثالث عشر فالأصل أنّهما في آخر المعلقة ، ولكن وضعناهما بهذا الترتيب لاتفاق هذين البيتين مع الأبيات الأولى في المعنى وقد رُوي بسندٍ عن أبي عمرو الشيباني أنّ قول عنترة :
[COLOR="rgb(160, 82, 45)"]
هل غادر الشعراء من متردم ** أم هل عرفت الدار بعد توهم[/COLOR]

هو البيت الأول ، وهذا لايعنينا ، ولا ليس له صلة بما نتكلّم عنه .

وقد جاء ذكر الجواء في البيت الأول عاريًا مُبهمًا ، إلا أنه باستطاعتك أن تجعله حاصرًا لحديثٍ بعده ، ومركزًا تردّ إليه ما يذكر من المواضع ، وقد فعل ذلك عنترة فعاد إلى ذكر الجواء ثانية ، وأومأ إلى ناحيته فقال بعد ذلك :

وتحلّ عبلة بالجواء ، وأهلنا ** بالحزن ، فالصمان ، فالمتثلّم

إلا أننا ما زلنا في شيء مُشاع ، ومواضع متفرّقة ، وإن كنّا قد عرفنا الحزن والصمّان ، وأخذنا بأزمّتهما ، إلا أنّ هذا لا يقودنا إلى الموضع لأنّ عندنا أكثر من جواء ، وقلنا إنّ قول العلماء بأنه جواء عدنة يحتمل الموضعين كليهما ، الجواء الذي في القصيم ، والجواء الذي في جاء في شعر زهير ، فإذا انتقلنا إلى البيت الذي بعده ، وجدناه يقول :

حلّتْ بأرض الزائرين فأصبحت ** عسرًا عليّ طِلابُكِ ابنة مَخْرَم

أي سكنت في أرض الزائرين ، وهم الأعداء ، وكنتُ أول الأمر أظنُّ أنّ قوله: حلّت بأرض الزائرين في هذا البيت تفسيرٌ لقوله : وتحلّ عبلة بالجواء في البيت الذي قبله ، أي كأنه يقول وعبلة تحلّ في الجواء في أرض الأعداء ، وظهر لي بهذا التقديرأنّ قوله في البيت الذي بعده البيت الثامن :

كيف المزار وقد تربّع أهلها ** بعنيزتين وأهلنا بالغيلم

أنه إنما قال ذلك ، ودلّ على تعذّرها عليه ، وامتناعها منه ، لأجل كونها في أرض أعدائه ، بل لأنها كانت من قوم أعدائه كما قال :

عُلِّقتها عَرَضًا ، وأقتلُ قومَها ** زعمًا لعمر أبيك ليس بمزعم

فأيقنتُ أنّ هذا الجواء كائن في أرض أعدائه ، و أنّ عنترة كان لا يستطيع الإلمام به لتلك العداوة التي بينه وبين قومها ، فجعلتُ أتسائل عن هؤلاء الأعداء ، من يكونون ؟ ، وأين منازلهم ؟ ، فتتبّعتُ الأحداث التي جرت لبني عبسٍ وحاولتُ معرفة هؤلاء القوم الذين كانوا أعداءً لعنترة في الوقت الذي قال فيه معلّقته ، فوجدتُ الرواة يذكرون أنّ عنترة قال هذه المعلّقة أيام حروب داحس والغبراء ، وهذه الأيام كانت بين عبسٍ وأبناء عمهم ذبيان كما هو معروف ، فعرفتُ أنّ الأعداء الذين يذكرهم عنترة في شعره هم هؤلاء ، وقد أشار عنترة إلى هذا بعينه ، فقال في البيتين اللذين جعلناهما الثاني عشر ، والثالث عشر ، وكانا في الأصل آخر بيتين في القصيدة ، وأرى أنّ هذا هو موضعهما الصحيح قال :

إني عداني أنّ أزورك فاعلمي ** ما قد علمتِ وبعضُ ما لم تَعلمي
حالت رماح ابني بغضٍ دونكم ** وزوَتْ جواني الحرب من لم يُجْرم


فابنا بغيض هما : عبسٌ ، وذبيان ، فقلتُ ينبغي أن يكون الجواء إذن في أرض بني ذبيان فهم أعداؤه ، وأعداء قومه بلا ريب ، ثم نظرتُ أقرب هذين الجواءين إلى أرض بني ذبيان فوجدتُه الجواء الذي ذكره زهيرٌ وقرنه بِيَمنٍ ، والقوادم ، وذي هاش ؛ لأنّ هذه المواضع لبني مرّة ، وهؤلاء من بني ذبيان ، ثم حقّق هذا عندي قول عنترة :

كيف المزار وقد تربّع أهلها ** بعنيزتين ، وأهلنا بالغيلم

فهناك يوجد بالقرب من يَمْنٍ والقوادم ، والموضع الذي حسبنا أنه هو الجواء موضعان متقاربان أحدهما يسمّى عنيزة ، والآخر عنزٌ ، وقد ذكر الهجري الأول منهما فقال : ( عنيزة : قَرْن بأباريات ، من جانب الهميان بين حرّة ليلى ، والجناب ) ، فقدّرتُ أنّهما عنيزتان اللتان ذكرهما عنترة .

صورة جبل عنز وعنيزة التي بقرب ذي هاش والقوادم



وهذه صخرة في جبل عنز



هكذا كنتُ أظنّ الأمر ، إلا أنّه تبيّن لي فيما بعد خطأ هذا الرأي ، وتجلّى أنّ النتيجة خلافُ ذلك تمامًا ، فاستخراج الدليل من الشعرُ ، وخاصةً الجاهليُّ منه ، أمرٌ يحتاج إلى تيقّظٍ وانتباه لأنك إنْ أخطأتَ غرض الشعر من ألفاظه قلبت معنى الشعر كلّه ، وأحلتَه عن وجهه ، وصرتَ كأنك الذي أخطأ مَخرجًا في طريقٍ من طرُق المدن الكبرى ، فكلّما أقام على هذه الغلطة واستمَرّ عليها كلّما ابتعد عن غايته وهدفه ، وربّما أخذ في عكس اتجاهه ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى شعر عنترة ، فإنا إذا أخذناه على ظاهره ، وعلى ما يسبق إلى الخاطر دون تأمل ونظر أدّانا إلى مثل هذه النتيجة ، والشعر الجاهليّ فهو وإن كان واضحًا لا يشوبه تعقيد المُحْدَثِين فإنّ إلى جانب ذلك البيان خفاءً قد يُخطِئه القارئ العجلان ، وهو ما كدت أقع فيه المرّة السابقة ، لأنك إذا تأملتَ البيتين الأول والثاني من القصيدة فضل تأمّلٍ ، ولم تركن إلى ما انتهينا إليه في شأن هذه الأبيات فإنك واجدٌ عنترة يقول :

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي ** وعمي صباحًا دار عبلةَ واسلمي
فوقفتُ فيها ناقتي ، وكأنها ** فدَنٌ لأَقضِيَ حاجةَ الُمَتلوِّم


فقوله : وقفتُ فيها ناقتي صريحٌ في أنه وقف بربع عبلة الذي بالجواء حقيقةً ، لا يحتملُ غير ذلك ، وهذا خلاف ما قلنا سابقًا إنه لم يستطع الوصول إليه ، فإن قيل : إنّ هذا الوقوف كان بعد رحيلها بزمن وذهاب أعدائه ، يدلّ على ذلك قول عنترة بعده :

حُييتَ من طَللٍ تقادم عَهْدُه ** أقوى ، وأقفر بعد أم الهيثم

فدلّك على أنّ وقُوفه قد كان بعد زمنٍ طويل ، حين أقفر المكان ، وتجرّم العهد ، و لم يأت منزلها أو يُلِمَّ بها حين إقامتها فيه ولكن بعد رحيلها عنه ، وتَرْكِها إياه كما دلّتْ أبياته الأخرى .
قلنا : إنّ عادة الشعراء خلاف ما تذكر ، فهم لا يقفون على الأطلال إلا لذكريات جميلة جرت لهم مع من يحبّونه وأيامٍ صالحة حدثتْ لهم في هذا المكان ، والشواهد في ذلك لا تُحصى ، هذه واحدة ، وأخرى أنه قال في البيت العاشر ، والحادي عشر :

ما راعني إلا حَمولة أهلها ** وَسْط الديار تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِم
فيها اثنتان ، وأربعون حَلوبَةً ** سودًا كخافية الغراب الأسحم


فقوله : ما راعني إلا حَمولة أهلها يقطعُ أن يكون قال ذلك وهي بعيدة عنه ، بل وهي بمرأىً منه ومَسمع ، وقد شاهدَ تحَمّلَ أهلها ، وساعة فراقها لا أنه قال ذلك بعد زمنٍ من رحيلها ، ومن هذا نفهم أنّ هذا الجواء كان بحيث يستطيع الوصول إليه ، وأنّ قوله في البيت الخامس :

حلّت بأرض الزائرين فأصبَحتْ ** عَسِرًا عليّ طِلابُكِ ابنة مخرم
إنما هو بعد رحيلها من هذا الجواء ، وكذلك قوله :



كيف المزار وقد تربّع أهلها ** بِعُنيزتين وأهلنا بالغيلم
وهذه الحقيقة التي قدمنا تضطرّنا اضطرارًا لا مخرج لنا منها إلى القول بأنّ المراد بالجواء في مُعَلّقة عنترة هو جواء القصيم ، لا الجواء الذي ذكره زهير بن أبي سُلمى وقرنه بِيَمنٍ ، والقوادم ، وذي هاش فإن قيل : فكيف زعمتَ أنّها كانت بمرأىً منه ومسمع ، أي أنه في الجواء معها ، وعنترة يقول :

وتحلّ عبلة بالجواء ، وأهلنا ** بالحَزنِ ، فالصمّان ، فالمُتَثَلّم

وهذا يدلّ على أنّه في موضعٍ ، وهي في موضع آخر ، ولم يساكنها أو يراها ويسمعها كما تقول .
قلتُ : إنّ ذلك لكما تذكر ، ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يستطيع الوصول إليها ، أو يمنعه من زيارتها والإلمام بها ، وزيارات الشعراء في أشعارهم لمنازل الحبيب أكثر من أن نستشهد عليها ، ومن أحسن ما جاء في هذا المعنى قول ذي الرمة في ميٍّ حبيبته ، وإن لم يكن أحسنها خُلقًا قال :

بكى زوجُ ميٍّ أن أُنيخَت قلائصي ** إلى بيت ميٍّ آخر الليل طٌلّح
فمُتْ كمدًا يــــا بَعلَ ميّة إنّهــــــــــا ** قلوبٌ لميٍّ آمن الغـــيبِ نُصّح


فإن قلتَ : فإنّ ما بين هذه المواضع بعيد ، وفي أقلّ مما بينها يُعدّ سفرًا ، فكيف زعمتَ أنه كان يمكنه زيارتها . قلتُ لك : صيحيحٌ ما ذكرته ، وقد تفكّرتُ فيه ولكنّ هذا بالنسبة للحضري ، وأما الأعرابي فلا يعدّها بعيدةً ، ويدلّك على ذلك ، وعلى أنّ الجواء لا يُعدّ بعيدًا من المتثلّم وهو المنزل الذي جعله عنترة لأهله ، قول أبي محمد الراجز الفقعسي وهو يخاطب بني الصيداء ، وهم أبناء عمٍّ له ، وكُلّهم من بني أسد ، في أبياتٍ أوردها الزبير بن بكار في ( جمهرة نسب قريشٍ وأخبارها ) صفحة : 721، وذكر منا سبتها ، قال :

وقلنا لهم إنّ الجواء أمامكم ** وشَرْجًا له الصحراءُ ، والمُتَثَلّم

فقرن الجواء بالمتثلّم ، وجعل المتثلّم من نواحي شَرْجٍ ، وهذا دالٌّ على ما قلناه من أنهم لا يعتدّونه بعيدًا .
وخلاصة القول :
هو أنّ الجواء المذكور في مُعلّقة عنترة ، هو الجواء الذي لا يزال يسمى الجواء شمال غرب مدينة بريدة ، وأنّ قول أبي بكر الأنباري في شرحه لبيت عنترة : ( والجواء : بلدٌ يسميه أهل نجدٍ جواء عدنة ) ، هو هذا ، وليس الجواء الواقع قرب القوادم ( القوايم الآن ) ، وذي هاش ، وإن كان هذا أدنى إلى عدنة ، ولكن أهل نجدٍ ذهبوا إلى الأشهر الأعرف ، ولم يحسبوا المسافة ، ولكن لعلّ بعض من لا يحسنُ فهم الحجج يقول : ما زال الناس يعرفون ذلك ، فإنا نقول له : إنّ ذلك كذلك ، ولكن فرقٌ بين من يقول القول مقلّدًا فيه ، وبين من يأخذ بدليلٍ ، ويدع بدليلٍ مثله ، والله تعالى أعلم .


****
***
**
*

وكتبه عبد الله المنصور في 16 / 8 / 1433 هــــ ببريدة


__DEFINE_LIKE_SHARE__
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
مـــــــطـــــلـــــوب جــــــــــــــوال n86 محروم.كوم منتدى أخبار المواقع والمنتديات العربية والأجنبية 0 11-18-2011 10:20 PM
مكينة فتك وقير فتك محروم.كوم منتدى أخبار المواقع والمنتديات العربية والأجنبية 0 10-07-2010 04:30 AM
دفريشنات وقير فتك للبيع محروم.كوم منتدى أخبار المواقع والمنتديات العربية والأجنبية 0 07-13-2010 11:10 AM
دبل وقير التاهو محروم.كوم منتدى أخبار المواقع والمنتديات العربية والأجنبية 0 06-05-2010 11:50 AM
نقدر نحصل فيلا ؟؟؟ محروم.كوم منتدى أخبار المواقع والمنتديات العربية والأجنبية 0 04-14-2010 07:10 PM


الساعة الآن 02:39 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.5.2 TranZ By Almuhajir

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML