تفاصيل موجعة في قضية الفقيد محمد حيان

[محروم.كوم]

تفاصيل موجعة في قضية الفقيد محمد حيان

ينتظرون فزعة الإخوة في قطر والبحرين معهم
إلى هذا الحد حياة الفقراء رخيصة ؟!.. فقدنا أغلى الناس من أجل حفنة سمك
عندما انقلب بنا المركب قذفنا جميعاً في الماء وتفرقنا في ظلمة البحر يبحث كل منا عن الآخر

الوقت - لميس ضيف:

خلال الساعات الثلاث التي قضيتها مع أسرة الفقيد محمد حيان، في منزل ابن عمه، كانت ابنتاه الجميلتان متكورتين بحضن أرملته الشابة، ولم تفرش أي منهما ابتسامة كتلك التي لا تفارق وجوه الأطفال، بدا أنهما وعلى صغر سنهما تشعران بحرقة الوداع أيضا كوالدتهما المغبونة. تلك التي تنازع الحزن والقلق على محياها، كيف لا، وهي تعاني الفقد ورهبة غد لا تعرف بأي وجه سيأتيها..''


لا أكاد أصدق أنه رحل بهذه الطريقة - قالت- عاش حياته كلها في كبد. كان يأمل أن الغد سيكون أفضل وأجمل. انتظر 6 سنوات ليستطيع شراء هذا المركب وعندما اشتراه أخيراً بقروض وصلت لـ7 آلاف دينار لم يهنأ به حتى لشهر، فقد مات في الشهر الذي تحقق فيه أمله في امتلاك مركب لائق!''.

حياة صعبة .. وأفراح مبتورة

''قاسى خالي كثيراً - هزت بنت أخته رأسها وهي تتكلم كمن يهاجس نفسه - تزوج وقسم الله له أن ينتظر 14 عاماً ليحصل على هاتين الطفلتين، وما اكتملت فرحته، إذ أقيل قسراً من عمله بعد أن سقط من الدور الثاني وأصيب بعجز بنسبة 80%، ولم يعوض عن إصابة العمل التي أصيب بها، لسنوات قاسى مع علته ولم يكن يملك كلفة العلاج وقدم للمعونة في أكثر من جهة فلم يلقَ بالاً، ولما تعالج بشق الأنفس على نفقة أخيه لم يقبلوا إعادته للعمل رغم حبه الشديد لعمله، كما وظلم في احتساب الراتب التقاعدي''.

''كانوا يصرفون له 135 دينارًا - قالت الزوجة مقاطعةً- فاضطر للعودة لحضن البحر، ولكن قاربه المتهالك لم يكن ليبتعد به حيث توجد الأسماك..''. بحارنا ليست كما كانت يا سيدتي - تنهدت زوجة أخيه مكي وهي تعقب- يروح البحار ويعود خالي اليدين، جفت بحارنا ولم يعد بها خير كما كانت.
ضاق البحر على البحارة؛ لذا صار الواحد منهم مضطراً للابتعاد قليلاً ليعود ببعض الرزق، لذا عقد المرحوم العزم على شراء ''ماكينة'' لقارب كبير قديم كان يملكه، ولكنه لم يملك المال اللازم لذلك، ست سنوات قضاها يحلم بقارب قوي يبتعد به عن البحار التي لم تعد تجود بخير، ولما تحقق الحلم هذه المرة لم يُخطف الحلم فحسب، بل خُطفت روحه''.
قالتها بأسى على الشاب الذي شطفت به الحياة طويلاً، وأطرقت في صمت لم تنطق بعده.

إلى هذا الحد حياة الفقراء رخيصة؟!

مكي حيان أخو الفقيد كان جالساً معنا يستمع، كان يبدو في الوهلة الأولى أكثر الحاضرين تماسكاً، ولكنه كان الأكثر تأثراً ''لم يكن أخي فحسب، كنت أباه وكان أبي قال وهو يحاول الحفاظ على رباطة جأشه التي انفرطت منه ما إن بدأ الحديث:
لسنا بمعترضين على قضاء الله، ولكننا نسأل: ماذا فعل أخونا ليستحق هذه الميتة؟!
أي جرم اقترف ليجازى بخطف روحه، وفجعنا به بهذه الطريقة؟! رجل ''أبو جهال'' خرج للبحر يبحث عن رزق بعد أن ضاق به الرزق، دخل المياه الإقليمية لدولة شقيقة خطأً، ولنفترض جدلاً أنه وطأها عامداً للصيد، أيستلزم ذلك مطاردته وضربه في كابينة القيادة ضربة قلبت القارب عدة مرات، وكان من الممكن أن تقضي على كل من فيه..! إلى هذا الحد حياة الفقراء رخيصة؟! دورية خفر السواحل تلك، وقبل أن تضرب قارب أخي ضربة الموت، اقتربت ووجهت كشافاتها على عدة الصيد، والإخوة في قطر يعرفوننا، ويعرفون أننا نأتي طلباً لحفنة سمك، أتستحق حفنة سمك حرمان رجل شريف مؤمن من حياته كلها!
علق السؤال كجرس على الضمائر واهتزت وجنتاه وهو يصارع دمعة كانت تلمع في عينيه.

خلناهم قراصنة .. وما قيل كان تحريفاً للوقائع

سألتهم بحذر: أتعتقدون - حقاً - أن الضربة كانت تستهدف قتله - أعني- أليس هناك احتمال أنهم كانوا يريدون إرهابهم أو تعطيل مركبتهم بغرض القبض عليهم أو دفعهم للتراجع للحدود البحرينية؟!
سألت، فانبرى علي حيان ''أخ الفقيد الذي كان برفقته على متن المركب'' للرد قائلا: هذا ما يتم الترويج له؛ للتخفيف من وطأة ما جرى، وقد قالوا أيضا إننا دخلنا بعمق 17 كم في المياه القطرية، وعليه نسأل: إن كنا دخلنا لهذا العمق حقاً، فكيف تقول الإحداثيات إننا كنا عند فشت الديبل المحاذي لشواطئنا، والذي كان يوماً ملكا للبحرين واعتدنا الصيد فيه منذ عشرات السنين!
إن ما حدث كان مغايراً - تماماً- لما قيل ''والكلام مازال لعلي ''لقد جرفتنا المياه وكنا نسير ببطء حتى تفاجأنا بسفينة لم تشعل كشافاتها تتسلل من خلفنا، هرعنا حينها؛ لأننا اعتقدنا أنها إحدى سفن القراصنة المنتشرة في بحار الخليج خاصةً، وأن دورية خفر السواحل لم تطلق أي إنذار ولم تومض لنا، ولم تعطِ أي إشارة أنها تابعة لخفر سواحل البحرين أو قطر. وقتها، سارع محمد للانطلاق هرباً مما خلناه حينها سفينة قراصنة، ولكن الدورية هبت وضربت مقدمة المركب، كانت ضربة عنيفةً أدت لانبعاج المقود الحديدي وخلع كرسي القيادة وانقلاب المركب مرات عدة، أحصيت ثلاثاً منها، ثم بدأت أفقد الوعي.

ولو كانت الضربة تحذيريةً، أو أي كان لضربونا من الخلف - كما اعتادت مراكب خفر السواحل أن تفعل مع المراكب البحرينية- ولكنهم استهدفوا هذه المرة الربان، وكان بإمكان ضربتهم تلك أن تقضي علينا جميعاً!

بغضب ممزوج بقهر قفز مكي من رحم صمته وقال:
كان قاربهم يهم عائداً للحدود البحرينية هرباً مما خالوه آنذاك سفينة قراصنة، فلِمَ لم تتصل الدورية القطرية بخفر السواحل البحرينية لتقبض عليهم إن كانوا يريدون محاسبتهم! ولِمَ لم تحاصرهم الدورية القطرية أصلاً عوضاً عن ضربهم!
مركبنا لا تتجاوز سرعته 52 عقدة في الساعة، ومركبهم القوي المتطور تفوق سرعته الـ120 عقدة، ما يعني أنه كان بإمكانهم لحاقهم والقبض عليهم بكل سهولة عوضا عن المغامرة بحياته وحياة كل من معه!


حينها أعاد العم شرح التفاصيل الفنية للحادثة، فهو الآخر ابن البحر ويعرف عم يتحدث؛ لذا بهر المدعي العام القطري بعمق معلوماته عن القوارب والبحر، ولكني فقدت في تلك اللحظات تركيزي وأنا أرقب ابنة الفقيد زينب (7 أعوام)، وهي تسمع بعينيها الواسعتين عمها وهو يروي تفاصيل وفاة أبيها الحبيب، وقد تسارع تنفسها في مشهد لا أكاد أجد ما يصفه من كلمات.

كنا في حالة إعياء شديدة .. ولم نلقَ عناية طبية لائقة

عندما انقلب بنا المركب قذفنا جميعاً في الماء وتفرقنا في ظلمة البحر يبحث كل منا عن الآخر، لم نكن قلقين على محمد؛ لأنه كان أشدنا وأكثرنا قوة وحنكة، أخذنا القلق على علي منصور (17 عاماً) ورضا؛ لأنهما الأصغر سناً والأحدث علماً بالبحر، وحتى عندما تجمعنا على سطح مركبنا الطافي وافتقدنا محمد لم نظن أنه مات، ولكنا استصرخنا الدورية التي تسببت بقلبنا لتساعدنا، خاصة وأن ثلاثة منا كانوا في حالة إعياء شديد، ولكنها لم تستجب لنا، ولما قلنا لها إن أحدنا مفقود، وإن عليها مساعدتنا في البحث عنه، فالتفتت إلينا ساخرة ''اشتكوا عليَّ إذن''، وبعد أكثر من نصف ساعة وصلت مراكب أخرى لم يكونوا مهتمين بالبحث عنه أو معالجتنا بقدر ما كانوا ينتظرون القبض علينا.
كنا في حالة مزرية - يقول علي- أخذونا مكبلين كالقتلة، ولم نحظَ بعناية طبية لائقة، وعندما عرضنا على الطبيب كتب لي ''مورفين''، ولكن الشرطي المرافق قال ''ليس لديك مال لتشتريه، ورمى الوصفة أرضاً''.

كانت أياما عصيبة - قال جاسم إبراهيم أحد الأربعة الذين تم القبض عليهم- تكالب علينا ألم الجسد وألم المهانة وحسرة القلق على محمد، جدد حبسنا دونما سبب مفهوم، ولولا تدخلات الأهالي وتحركات النواب لما خرجنا، علماً أننا هناك لم نحظَ سوى بزيارة من موفد من الداخلية، وعندما سألناه عن مصيرنا هز كتفه في إشارة لكونه لا يعلم!
علماً أننا رجعنا - رغم ما بنا من رضوض في الظهر والرقبة بالمركب - فقد استكثروا علينا حتى ثمن تذكرة السفر!

نريد محامين ليقفوا معنا .. ونطمع في فزعة الأخوة في البحرين وقطر

رضا علي (27 عاماً) خريج جامعي في إدارة الإعمال، أعيته البطالة، فدخل البحر معهم؛ ليتقاسم معهم الخبز، فقاسمهم تلك التجربة المروعة التي عنها يقول:
ما زالت أعيش حالة الصدمة، وأواجه صعوبة في النوم ويلاحقني طيف محمد ليل نهار، معرفتي به قصيرة، ولكني ما رأيت مَنْ في أخلاقه وشهامته ورجولته، مازالت أذكر المعاملة التي لقيناها، وكيف كان علي يطلب دخول دورة المياه (أجلكم الله) لثلاث ساعات فلا يستجاب لطلبه، لقد كانوا يرتضون بالتأكيد التصرفات الفردية التي بدرت من بعضهم.

دم أخي هناك .. فلا تخذلوه ولا تخذلوا أيتامه

''إننا نربأ عن الإخوة في قطر أن يرتضوا ما جرى لنا، وأنا في هذا المقام أشكر وأجلّ أهالي الشمال في قطر لوقفتهم وشهامتهم معنا، كما وأشكر البحارة الذين هبوا للبحث عنه، وأشير هنا إلى أن 20 طراداً كانوا متوثبين للخروج بحثا عنه، ولكنهم لم يمنحوا التراخيص اللازمة، ومع ذلك تحدى ستةمنهم الحظر ودخلوا مجازفين بالتعرض للمصير ذاته - فقط- لنجدتنا والبحث عن محمد، محمد أخي الغالي الذي استلمنا جثته في حالة تهز لها النفوس، ولا أستطيع الحديث عنها مراعاة لمشاعر أخواته وزوجته، ولكني أٌقول للأطايب إنه ترك لتسع ساعات بعد الحصول على جثته على الشاطئ، ولم يأتِ وكيل النيابة لمعاينته إلا بعد كل تلك الساعات التي تعرضت فيها جثته لتشويه بالغ لا أكاد أنساه.

إن دم زوجي هناك - قالت زوجته بعد طول صمت- وبناته هنا مع ذكراه وديونه بلا مستقبل ولا معيل، ونحن نريد حلاً لنا، وعقاباً ينال من تسببوا بما حدث له؛ ليُبرئ بعضاً من قيح قلوبنا، كما ونأمل في حل لإخوتنا البحارة الذين يعيشون في كبد.

وختمنا الحديث بعبارة ولا أبلغ ساقها أخوه إذ قال:
لقد خدم أخي الناس كثيراً في حياته، وها هو يخدمهم في مماته، نتمنى أن يكون قد قدم حياته فداء لقضية، ونتمنى من الناس أن تُبقي جذوتها حية، وتطالب بحقه وحق أمثاله في الكرامة والإنسانية.

__DEFINE_LIKE_SHARE__