نداء الخالق
دائماً ماكنت أتسائل إخواني الكرام . . مالذي يجعل الواحد منا يتلهف للقاء شخصية عظيمة ؟ او إنسان مشهور , او شخص ذو مرتبة عالية . مالذي يجعل المرء يشعر بالغبن والسرور عندما يجلس مع الأمراء او الملوك , رغم أنهم في النهاية بشر لهم مالك وعليهم ماعليك ؟ وأجيب نفسي أنه قد يكون الحب في الحقيقة , وأحياناً لا يعدو الموضوع خارجاً عن المصلحة والمنفعة الشخصية .
قد يتخيل المرء منا نفسه وهو يصافح أحد القادة او الملوك , ويجلس معهم ويشعر حينها بأنه من علية القوم وبأهميته الشخصية وهذا شعور إنساني فطري , فالنفس مجبولة على ذالك , ومالحياة الدنيا الا تفاخر في الاموال والاولاد .
وفي حالات عديدة من حياتنا جميعا ً يحصل ذالك اللقاء اما صدفة وإما بترتيب مسبق , ولكن عليك حينها أن تمر على الحاجب لتأخذ موعد مسبق في حالة كنت ترغب بلقاء امير او ملك وتنتظر في الصفوف الى ان يشاء الله , اما ان كنت تريد لقاء النجم العالمي المشهور فعليك ان تجتاز اسوار الامن المحيطة به ولن تخرج منه بأقل من توقيع او شخطة قلم , وقس على ذالك بقية الأمثلة .
وهذا مايدفعني للتساؤل والحيرة حقيقةً ! لماذا لا يشعر الناس وهم ذاهبون للصلاة بأنهم مقبلون على ملك الملوك وجبار السماوات والأرض , الذي تسبح الجبال لهيبته , والأراضين لسطوته والبحار لمُلكِه وعزته , ومامن شيء في السموات والأرض إلا وهو يحمده ويثني عليه , وهو الذي خلقك وخلق هؤلاء الملوك والأمراء , فنحن جميعا نمشي في أرضه ونأكل من خيره , وهو استخلفنا في الأرض لنعمرها بطاعته ومرضاته .
لماذا لا يشعر الناس بنداء الخالق الذي يناديك خمس مرات في اليوم والليلة لتقبل عليه !
تخيل أخي الكريم . . وأختي الكريمة , خمس مرات في اليوم والليلة تتلقى نداء مباشر ودعوة بلا حاجب ولا وسيط ولا قاعات انتظار او مواعيد او امن , دعوة تصدح في ارجاء الكون موجهة لكل انسان يمشي على الارض , ليقبل على بلاط ملك الملوك عزوجل , ليخاطبه مباشرة بلا اي قيود او حدود !
إننا حينما نستشعر هذه المعاني السامية , حتماً سنقبل على الله عزوجل بقلوب خاضعة وخاشعة , ترجوا رحمته وتخشى عقابه , فهو الرزاق فلا رازق غيره , وهو المدبر فلا مدبر غيره , وهو المتفرد بالجلال والكمال سبحانه , وكل البشر يمشون حسب إرادته ووفقاً لسننه وقوانينه , فله اسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً .
وهنا أنا اتسائل ؟ لماذا لا نشعر بأهمية هذا النداء ؟ لماذا نتقبله وكأنه فرض منزلي أو عبء ثقيل على القلب ؟ والله لم يشعر بهذا النداء وحلاوته وجماله إلا من عرف حقيقة العبادة كما عرفها السابقون الذين لم تلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلوات . جرب يوماً . . أن تقف في شرفة منزلك , وأن تفتح النافذة , لتسمع هذا الاذان كما لم تسمعه من قبل , عشه بروحك وقلبك وجوارحك , تذكر نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وهو يمشي بين شوارع مكة هو وأصحابه يلاقون اشد العذاب من كفار قريش , تذكر حينما هاجر الى المدينة هو وصاحبه ليس لهما الا الله , تذكر ابو بكر وعمر وعثمان وعلي , تذكر صلاح الدين ومحمد الفاتح وخلفاء الامة العظام , تذكر العباد والزهاد , تذكر ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي تذكر ممن عاشوا حياتهم وماتوا لأجل لله , لم يغريهم منصب ولا جاه عن الغاية الحقيقة التي خلقوا لأجلها , عندما تسمع الله اكبر الله اكبر , تذكر بأن الله اعلى وأجل من كل لذة فانية وكل متعة زائلة , تذكر بأنه يراقبك وينظر اليك هو وملائكته الكرام , تذكر بأنك وانت واقف هناك ملكين عن يمينك وعن شمالك يسجلان كل ماتفعل من صغير وكبير , عظيم وحقير , تذكر الموت وشدته القبر وظلمته ويوم الحشر وكربته والصراط وزلته , تذكر كل ذالك لكي تعرف اخي الكريم واختي الكريمة وضعك الحقيقي في حياتك , وتحدد أولوياتك مع كل أذان تسمعه , فلا يمضي أذان إلا وأنت تتقدم الى الأمام لا إلا الخلف , وحاسب نفسك قبل أن تحاسب , وصدقني حينها , ستشعر بشيء لم تشعره من قبل , ربما ستدرك حينها ولأول مرة كم كنت غافلاً , وستندم على كل لحظة فاتت من عمرك القصير لم تقبل فيها على الله عزوجل .
واعلم اخي الكريم ان السابقون الأولون , والعارفين بأمور الدنيا لم تكن العبادة بالنسبة لهم مجرد فروض جامدة لا حياة فيها , بل عاشوها بقلوبهم وجوارحهم وابدانهم , فكانت خير مفجر لطاقاتهم الايجابية في بناء نهضة وحضارة اسلامية لم يعرف لها التاريخ البشري مثيلا , وحينما تخلينا نحن هذا الخشوع والخضوع , واصبحت العبادة بالنسبة لأحدنا كفرض منزلي , اصبحنا اوهن امة ولا أزيد .
بلال بن رباح . . اسم لا يخطئ سامعه , يعرفه المسلمون في مشارق الارض ومغاربها , بعد وفاة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم , يستأذن أبو بكر الصديق بأن لا يؤذن لأحد بعد الآن , فكلما وصل الى اشهد ان محمدا رسول الله تخنقه العبرات وهو يتذكر الحبيب والقائد والمعلم والصديق والنبي فلا يكمل أذانه , ويتساقط من حوله الصحابة جزعاً لفراق حبيبهم عليه أفضل الصلاة واتم التسليم .
بلال . . تمر به الايام , ويلتحق بجيش الفتوحات في الشام مرابطاً ومجاهدا في سبيل الله , ليطول به الزمان ويرى بأم عينيه الوعد الصادق ممن لا ينطق عن الهوى , وتتساقط المدن تباعا في أيدي المسلمين وتسقط الممالك ويمتد الإسلام لمشارق الارض ومغاربها , فكان ممن شهدوا فتح بيت المقدس , وكلنا يعلم بقدوم عمر ابن الخطاب رضي الله عنه الى بيت المقدس بصفته اميراً للمؤمنين كي يتسلم مفاتيح المدينة .
وفي تلك اللحظة الفارقة في التاريخ , التي ترتجف لها القلوب نشوة وهيبة , يطلب الصحابة من عمر ان يؤذن بلال كأذانه لرسول الله صلى الله عليه وسلم , فتهمس الاصوات , وتسكن اقدام كتائب الإيمان ويطأطئ الجميع رؤوسهم شكرا لله أن بلغهم هذا الفتح المبين , يوافق بلال شريطة ان يكون أذانه لمرة واحدة فقط . ثم يصعد بلال في مشهد حفظه التاريخ لا ينسى مع تطاول الوقت , يصعد بلال ليؤذن , وترتجف الاسماع والقلوب لهذا المشهد المؤثر , فيبكي الجميع ويبكي عمر كما لم يبكي من قبل , ويبكي ابو عبيدة وخالد ابن الوليد والصحابة , فيتذكرون حبيبهم المصطفى صلى الله عليه وسلم , ويتمنوا لو أنه معهم في هذا الفتح الذي من الله به عليهم بعد ان كانوا قبل سنين قليلة مطاردين في شوارع مكة لا يأمنون على انفسهم , فسبحان الله الذي يؤتي ملكه من يشاء وينزع ملكه ممن يشاء .
في الحقيقة اخواني , إن الأذان الذي نسمعه كل يوم , هو نداء يتردد بين أجنابه صدى تاريخنا المشرق , ويفوح من بين جنباته عطر مجد الأمة القديم , ينادينا لكي نقبل على خالقنا عزوجل , ولنغير حياتنا حتى ينصرنا الله , فأي إجلال وخشوع ورقة وعاطفة يثيرها هذا النداء الرباني في قلب المرء , وهو يتردد بين جنبات الكون , طوال قرون عديدة من منابر الأرض جميعها , اي قوة دافعة يثيرها هذا النداء في قلب المسلم ليستشعر دناءة هذه الحياة الفانية , ويطمع فيما عند الله , فيشعر بنفحة إيمانية ربانية , تدفعه ليغير في نفسه وبيته واسرته ومجتمعه , فالصلاة ليست عبادة صماء ولكنها وسيلة حياة , وبناء للمجتمعات , وهذا الأذان لم يكن يوماً مجرد صوت ليذكرك بفريضة , ولكنه نداء الحق ووقود حياة لملايين المسلمين ممن عاشوا وماتوا وماتغيروا , فكانوا نعم السلف , فهل سنكون لهم خير خلف ؟
أسأل الله أن نكون كذالك .
أخوكم ولـد بـلادي
__DEFINE_LIKE_SHARE__
|