حربُ استنزاف
 

عدم رغبة النظام الخليفي في السعي حتى لمجرّد تهيئة الأجواء لأي إصلاح حقيقي في البلد على أيِّ مستوىً كان و بأيِّ عنوان -ملكية دستورية أو جمهورية ديمقراطية أو غيرهما-(1) يبدو حقيقةً يتسالَم عليها الشعبُ كلُّ الشعب و كلُّ فصائله و قِواه المعارضة -بمن فيها الجمعيات السياسية-، كما أنَّ شريحةً واسعةً من الشعب و عددًا من قِواه صرَّحوا أنّهم لا يؤمنون حتى بقابلية و إمكانية توفُّر مثل هكذا تغيير من قِبَل النظام. بعد تسليمنا بذلك، ما الذي يريد هذا النظام فعله؟

الهدف هو الحفاظ على السلطة عبر عدم تمكين الشعب من تغييرٍ حقيقي يُحقِّق إرادته الرافضة لشتّى أشكال الفساد، و عدم التمكين هذا لا يمنع من تغييرٍ ظاهري يوهَم به من يوهَم، و من أهم أدوات تحقيق هذا الهدف:
- تشتيت تركيز الشعب على المطالب السياسية الرئيسية عبر اللجان الولاّدة و دعوات الحوار، بل حتى الملفات الحقوقية!
- استنزاف الشعب عبر إتعابه و امتصاص غضبه و سلبه -ما أمكن- أسباب قوته.
- منع الشعب و قِواه عن الإمساك بـ"مفاتيح اللعبة السياسية" و سلبهم قدرة التأثير الفاعلة التي تُغيِّر مسار الصِراع عبر وسائل منها تدويل القضية.

يهمني الآن أن أُشير بنحوٍ موجَز إلى الاستنزاف الذي يتم عبر عبر إنهاك الشعب و امتصاص حماسه و غضبه و سلبه ما أمكن من أسباب قوته، الذي أرى أن خطورته بالغة و السعي فيه من النظام حثيث، و أعتقد أن الكثير من الاستفزازات للشعب تقع في هذا الإطار بما فيها التي يتعرّض الحُكم فيها للشيخ عيسى قاسم و بعض الرموز و النشطاء هنا و هناك و ما يعقب ذلك من زيادةٍ في الاستفزاز و من اعتقالاتٍ و إجراءاتٍ أخرى تكاد تُعطِّل الدور الإيجابي لأكثر من مؤثِّر، و من بينها إجراءاتٌ تشريعية و قضائية و أمنية، (حصار العكر) مثالاً.

البعض قد يستهين بالمسألة، بل قد يُكابِر فيقول بعجز النظام عن ذلك -و لو نسبيًا- رغم تحقُّقه درجاتٍ منه على الأرض! و هنا تجدر الإشارة إلى قضية نبيل رجب التي أعُدُّها نموذجًا مُصغَّرًا لما أتحدَّث عنه، يُستفَزُّ الشارع بالتحقيق معه، مرةً أخرى عبر التوقيف لساعات، توقيفٌ ليوم، لأيام، و في كل مرةٍ يُستنزَف الشارع و يُمتصُّ غضبُه فيَهون مقدار الاستفزاز الذي قبله و تُقاس ردة فعل الشارع لتخمين ردة الفعل التي تتحقّق حال زيادة الاستفزاز حتى وجدناه الآن معتقلاً محبوسًا لفترةٍ أطول فقدناه فيها -ولو نسبيًا- و كذلك تأثيرَه على الساحة و تحريكه لها(2)، و أتمنى أن لا تنتهي -هذه الفترة- بمحاولة توريطه بقضيةٍ أخرى أو ما شابه ذلك!

هذه مشكلة و ممارستها -بنظري- ليست وليدة 14 فبراير، قد تختلف وجهات النظر لحلّها، و عني شخصيًا فإني أراه يتلخّص في الآتي:
- تنشيط حركة الوعي في كل المجالات ذات الصلة لا سيّما المجال الثقافي، فللتأصيل -مثلاً- دورٌ هام في المناعة ضد الاستنزاف، و يمكن استغلال القضايا و الأحداث الداهِمة بشكلٍ جيِّدٍ جدًا في هذا المجال.
- أن لا يشوب ردات فعلنا تجاه استفزازات النظام أيُّ انفعالٍ مُجرَّد ما أمكَن ذلك.
- التقليل من بعض الفعاليات غير الرئيسية إن أمكن ذلك و كان مناسبًا.
- التركيز في كل الفعاليات و البرامج على المضامين الأهم و العناوين المطلبية الرئيسية، فنرفع شعارات تقرير المصير -مثلاً- حتى في الوقفات التضامنية مع المُعتقلين إن وُجِدَت.
- إن داهتمنا قضيةٌ حقوقيةٌ عاجلة لا تحتمل التأجيل نُركِّز عليها و نبذل فيها الجهد المناسب، لكن دون أن ننشغل عن المضامين الهامة و العناوين المطلبية الرئيسية و أن لا نسمح للنظام بأن يُوجِّه حِراكَنا بنحوٍ غير مباشر عبر شَغلِنا بما هو دونها مثلاً.
- المزيد من السعي لتفعيل الأدوات السلمية الفاعلة و المؤثرة و كذا أدوات الدفاع المقدّس بالقدر اللازم.
- و لا يخفى أن حِراكنا الإعلامي دون المستوى المطلوب، و المرجو أن يكون الكيفُ متقدمًا عمّا هو عليه، و كذا الكم ما أمكن.

هذه النقاط -بحسب وجهة نظري- تضمن لنا توجيه ردة الفعل و ضمان عدم الاستنزاف و لو بدرجةٍ و نسبةٍ معيّنة، و سأطرح لاحقًا -بإذن الله- حادثةً في إحدى الدول العربية للاستفادة منها في هذا المجال.


---------------------------------------------------------------
(1) مع الالتفات إلى أن أيًا من العناوين المطروحة لا يُعَد بنظري إصلاحًا حقيقيًا كاملاً على الأقل.
(2) و لا شكّ في أنّ نبيل رجب الشخصيات ذات التأثير الهام على الساحة، لا سيّما النشاط الثوري الميداني.