![]() |
( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ...) الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلامعلى رسول الله، أما بعد: فهذا لقاء يتجدد مع قاعدة قرآنية محكمة، ذات البعدالإيماني والتربوي، وله صلة شديدة بواقعنا اليومي، إنها القاعدة التي دلّ عليها قولربنا جل جلاله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْوَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]. . . وهذه القاعدة القرآنية المحكمةتكررت بلفظ قريب في عدد من المواضع، كما تكرر معناها في مواضع أخرى. فمن نظائرهااللفظية المقاربة قول الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْأَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، وقال سبحانه: {مَاأَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْنَفْسِكَ} [النساء: 79]، ويقول عز وجل: { وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌبِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ...} [القصص: 47]. . . وأما الآيات التي وردتفي تقرير هذا المعنى فكثيرة جدا، ومن ذلك قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ رَبُّكَمُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْآيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]، وكقوله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَاكَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْيَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقال جل وعلا: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَالْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَبِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران: 181، 182] في ثلاث مواضع من كتاب الله عزوجل. ويقول سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوابِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْيَقْنَطُونَ} [الروم: 36]، ي قول شيخ الإسلام ابن تيميه: ملخصاً ما دلت عليه هذهالآيات الكريمة بتلخيص العالم المتتبع المستقرئ لنصوص القرآن الكريم، يقول رحمهالله: "والقرآن يبين في غير موضع: أن الله لم يهلك أحداً ولم يعذبه إلا بذنب"(1). . . أيها الإخوة الكرام: وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآياتالكريمة دلت عليه أيضا نصوص من الوحي الآخر، ألا وهو السنة النبوية على صاحبها أفضلالصلاة والسلام، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبى ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي العظيم ـ الذي يرويه عن ربهتعالى قال الله عز وجل: "إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرافليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلوم إلا نفسه"(2). وفى صحيح البخاريمن حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيدالاستغفار أن تقول اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدكووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء لك بذنبي فاغفر ليفإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت... الحديث"(3). وفى الصحيحين لما سأل أبوبكر - رضي الله عنه - النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته،قال له عليه الصلاة والسلام: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوبإلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفورالرحيم"(4). . . . فتأمل ـ أيها المؤمن ـ في هذه الأحاديث جيداً! فَمَنْ هو السائل؟ ومَنْ هو المجيب؟ أما السائل فهو أبو بكر الصديق الأكبر الذي شهدله النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في مواضع متعددة، وأما المجيب فهو الرسولالناصح المشفق صلوات الله وسلامه عليه! ومع هذا يطلب منه عليه الصلاة والسلام أنيعترف بذنوبه، وظلمه الكبير والكثير، ويسأل ربه مغفرة ذلك والعفو عنه، والسؤال هناـ أيها الأخوة القراء ـ مَنْ الناس بعد أبي بكر رضي الله عنه؟ . . . أيها القراء الفضلاء: إذا تقررت هذه الحقيقة الشرعية ـ وهيأن الذنوب سببٌ للعقوبات العامة والخاصة ـ فحري بالعاقل أن يبدأ بنفسه، فيفتش عنمناطق الزلل فيه، وأن يسأل ربه أن يهديه لمعرفة ذلك، فإن من الناس من يستمرئ الذنبتلو الذنب، والمعصية تلو المعصية، ولا ينتبه لذلك! بل قد لا يبالى! ولربما استحسنذلك ـ عياذاً بالله ـ فتتابع العقوبات عليه وهو لا يشعر، فتكون مصيبته حين إذنمضاعفه! . . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ـ وهو يتحدث عنالأمور التي تورث العبد الصبر وتعينه عليه ليبلغ مرتبة الإمامة في الدين ـ قال رحمهالله: "أن يشهد ذنوبه، وأن الله إنما سلط الناس عليه بسبب ذنبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْكَثِيرٍ}، فإذا شهد العبد أن جميع ما يناله من المكروه فسببه ذنوبه، اشتعلبالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلطهم عليه بسببها عن ذنبهم ولومهم، والوقيعةفيه، وإذا رأيت العبد يقع في الناس إذا آذوه ولا يرجع إلى نفسه باللوم والاستغفار،فاعلم أن مصيبته مصيبة حققية، وإذا تاب واستغفر، وقال: هذا بذنوبي، صارت في حقهنعمة، قال علي رضي الله عنه كلمة من جواهر الكلام: "لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه ولايخافن عبد إلا ذنبه"، وروي عنه وعن غيره: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلابتوبة" (5) انتهى كلام شيخ الإسلام رحمه الله. ويقول تلميذه ابنالقيم رحمة الله عليه ـ وهو يوضح شيئاً من دلالات هذه القاعدة القرآنية المحكمة {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْكَثِيرٍ} قال رحمه الله: وهل فى الدنيا والآخرة شرور وداء إلا سببه الذنوبوالمعاصي؟! فما الذي أخرج الأبوين من الجنة دار اللذة والنعيم، والبهجة والسرورإلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوتالسماء؟ وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه؟ فجعلت صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنهأقبح من صورته وأشنع، وبُدِّلَ بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنةً، وبالجمال قبحاً،وبالجنة ناراً تلظى، وبالايمان كفراً، وبموالات الولي الحميد أعظم عداوة ومشاقة،وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجلَ الكفر والشرك والكذب والزور والفحش، وبلباسالايمان لباس الكفر والفسوق والعصيان؟ فهان على الله غاية الهوان، وسقط من عينهغاية السقوط، وحلّ عليه غضب الرب تعالى، فأهواه ومقته أكبر المقت! وماالذي أغرق أهل الأرض كلهم؟ حتى علا الماء فوق رأس الجبال، وما الذي سلطالريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الارض، كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ودمرت ما مرَّ عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم؟ حتى صاروا عبرة للأمم إلىيوم القيامة؟ وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة، حتى قطعت قلوبهم فيأجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟ وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكةنبيح كلابهم، ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها؟ فأهلكم جميعاً ثم أتبعهم حجارة منسجيل السماء، أمطرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه علي أمة غيرهم،ولإخوانهم أمثالها، وما هي من الظالمين ببعيد. وما الذي أرسل على قومشعيب سحاب العذاب كالظلل؟ فلما صار فوق رؤوسهم أمطر عليهم ناراًتلظى؟ وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر، ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم،فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟ وما الذي خسف بقارون وداره ومالهوأهله؟ وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات، ودمرهاتدميراً؟... إلى أن قال رحمه الله: قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم، ثناصفوان بن عمر، حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه قال: لما فتحت قبرص،فُرِّقَ بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي! فقلت: يا أبا الدرداء! ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير! ما أهون الخلق على الله عز وجل إذا أضاعوا أمره؟! بينما هي أمة قاهرة ظاهرة، لهمالملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى!انتهى كلام بن القيم:. والذياستطرد كثيرا في بيان آثار الذنوب والمعاصي السيئة على الفرد والمجتمع في كتابهالنافع الجواب الكافي وذكر كلاما نفيسا يحسن الرجوع إليه والاستفادة منه. إخوة الإيمان: وليُعْلَم أنه ينبغي أن ندرك أن العقوبات حينماتذكر، فلا يصح حصرها في العقوبات الحسية أو العقوبات الجماعية ـ التي أشار ابنالقيم إلى شيء منها ـ كالهدم والغرق والصيحة، أو السجن والعذاب الحسي، ونحو ذلك،فهذه لا شك أنها أنواع من العقوبات، ولكن ثمة أنواع من العقوبات قد تكون أشد وأعظم،وهى تلك العقوبات التي تتسلط على القلب، فيضرب بالغفلة وقسوته، حتى إن جبال الدنيالو تناطحت أمامه ما اعتبر ولا اتعظ ـ عياذاً بالله ـ بل يظن المسكين، أو تظن أمة منالأمم ـ وهى ترى النعم تتابع وتزداد مع استمرارها في البعد عن شرع الله ـ تظن أنذلك علامةً على رضى الله عز وجل عنها، وهذه لعمر الله من أعظم العقوبات التي يبتلىبها العبد وتبتلى بها أمة من الأمم. استمع جيدا إلى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِوَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَاتَضَرَّعُوا} ف ما الذي حصل؟ هل تابوا أم رجعوا؟ اقرأ تتمة الآية: {وَلَكِنْقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍحَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْمُبْلِسُونَ [الأنعام: 42 - 44] فنعوذ بالله أن نكون من أهل هذه الآية، ونسألهبمنه وكرمه أن يتوب علينا وأن يبصرنا بمواطن الزلل منا، وأن لا يضربنا بقسوة القلب،وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا إن ربي سميع مجيب الدعاء، وإلى لقاء قادم بإذنالله تعالى والحمد لله رب العالمين. . . . . د _ عمر عبد اللهالمقبل |
جزاج الله خيرا اخيتي في ميزان حسناتج يالغلا الله يعطيج العافيه حبوبه سلمت اناملج يالغلا |
اقتباس:
نورتي فديتج .. |
http://alfrasha.maktoob.com/ups/u/13...504/225161.gif بارك الله فيك اختي zoOoOoz.. و مشكووووووووووووووورة يالغالية على الموضوع رائع و في ميزان حسناتك أن شاء الله و لا تحرمنا من تواجدك و مواضيعك المميزه في القسم الإسلامي وبإنتظار ان تزين هذه المساحات بالمزيد من سخاء هذا القلم وألوانه الراقية . http://alfrasha.maktoob.com/ups/u/13...504/225165.gif |
يزآج الله خير إختيْ ع الطرح الرآقــيْ , وفيْ موآزين حسنــآتج الشخية , وعسى ربيْ يكتب لج الأجر الكبير ’ ولآ هنتيْ الســآع , ... |
الساعة الآن 12:51 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.5.2 TranZ By
Almuhajir