![]() |
(8) والقرآنُ العظيمُ فيه إعجازٌ للبَشر، وإعجازٌ للخَلْق، فهو كتابُ اللهِ الذي لا يَستطيعون أنْ يأتوا بِمِثلِه، أو يتكلَّموا بِما يُشبِهُه. قال الله سُبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ(1)مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23]. ولن يَستطيعوا إلى ذلك سبيلًا. فهم أقَلُّ وأقلُّ مِن أن يفعلوا ذلك، بالرُّغم مِن أنَّهم العربُ الفُصحاءُ الذي نَزَل القرآنُ الكريمُ بِلُغتِهم وما يَعرِفونه، لكنهم -مع ذلك- عَجزوا عن ذلك، ولم يَقدِروا عليه. قال الله سُبحانه: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]. (9) والقرآنُ العظيمُ كتابُ هدايةٍ وإرشاد. قال اللهُ سُبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]. وهذه الهدايةُ القرآنيةُ مشتملةٌ على أقسامٍ ثلاثةٍ عمَّتْ جميعَ ما يُصلِحُ الناسَ في شأنِ دُنياهم وأمورِ معاشِهم: القسمُ الأول: يتناولُ العقائدَ التي يجبُ على الناس معرفتُها، والإيمانُ بها؛ كالإيمانِ بالله، وملائكتِه، وكُتبِه، ورسُلِه، واليوم الآخِر. القسمُ الثاني: يتناول الأحكامَ الشرعيةَ التي مِن خلالِها يَعبُد الناسُ ربَّهم، ويعرفون ما إلى الله يُقرِّبُهم، وينتَهون عما عنه يُبعِدُهم. القسمُ الثالثُ: هو المعاملاتُ المهذِّبةُ للناس فيما بينهم، فهي تُهذِّب النفسَ المؤمنةَ وتطهِّرها، وترفعُ مِن شأنِها، وتُقوِّي روابطَ الإخاء، وتثبِّتُ مجالاتِ التعاونِ بين البَشَر. ومِن هذه الأخلاقِ: الصدقُ، والصبر، والرحمة، وبِرُّ الوالِدَيْن، وغيرها. (10) فعلينا بالقرآنِ الكريم: نقرؤُه. ونتدبرُ آياتِه. ونفهم أوامرَه وأحكامَه. ونطبِّقُ شرائعَه وفرائضَه وواجباتِه. وننتهي عما يُغضِبُه مما نَهانا عنه، ولم يرضَه لنا. ــــــــ (1) رَيْب: شَكّ. |
- 7 - الرسل والأنبياء (1) لَمَّا خَلَق اللهُ سُبحانه وتعالى خَلْقَه كلَّهم؛ استخلَصَ مِن الإنسِ بعضَ الرِّجال؛ ليُحمِّلَهم أمانةَ تبليغِ أوامرِه سُبحانه، وإعلامِ الناسِ بما يَطلبُه منهم ربُّهم، وبما يَفرِضُه عليهم، ويَنهاهُم عنه. قال اللهُ عزَّ شأنُه: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى(1)آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]. وقال سُبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. (2) فالغرضُ الأساسِيُّ الذي مِن أجلِه بعثَ اللهُ الرُّسُلَ وأرسلَ الأنبياءَ هو دَعوةُ الناسِ إلى عبادةِ اللهِ وإقامةِ دينِه. قال اللهُ سُبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ(2)} [النحل: 36]. وليستْ إقامةُ الدِّين الصلاةَ والصيامَ فقط؛ بل هِي كلُّ ما أمَر اللهُ به عبادَهُ أن يُؤمِنوا به في قلوبِهم، أو يُنفِّذُوهُ في أفعالِهم وأعمالِهم. فإقامةُ الدِّينِ تتطلَّبُ الإيمانَ بالله، وملائكتِه، وكتُبِه، ورُسُلِه، و اليومِ الآخِر، وتتطلبُ الأعمالَ الصالِحَة، والفرائضَ المطلوبة؛ كالصلاةِ، والصِّيام، ونحوِهما مما فَرضَه اللهُ على عِبادِه. (3) وهذه الفرائضُ والأوامرُ والتعاليمُ؛ لا يُمكِنُ للخلائقِ أنْ يَصِلُوا إليها بعقولِهم وحْدَها؛ دون إعلامٍ مِن اللهِ سُبحانه لهم بِها، وإنما يتعلَّمونَها بِوَحْيِ اللهِ سُبحانه إلى رُسُلِه، وبِتبليغِ رُسُلِ اللهِ إليهم أوامِرَ ربِّهم عزَّ شأنُه. قال اللهُ سُبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ(3)رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ(4)وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. فمَنِ استجابَ لِرُسُلِ الله وأنبِيائِه؛ فهو مِن الفائِزين، ومَن رَفَض قولَهُم، ولم يَقبَل دَعوتَهم؛ فهو مِن الخاسِرِين. (4) ولقد أوجَبَ اللهُ سُبحانَه وتَعالى على المسلمِ أنْ يُؤمِنَ بِجميعِ رسُلِ اللهِ وأنبيائِه، دون أنْ يُفرِّقَ بين واحدٍ وآخَر؛ فالكُلُّ مِن اللهِ مُرسَلون، ولِخَلْقِه مَبعوثُون. قال ربُّنا سُبحانه وتعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136]. وقال سُبحانه: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]. (5) أما إذا آمَن واحِدٌ مِن الناسِ ببعضِ الرُّسُل، ولكنه لم يُؤمنْ ببقيَّتِهم؛ فهو مُفرِّق في الإيمانِ بهم؛ فهُو كافِر، لا يُدخِلُه اللهُ سُبحانه الجنَّةَ؛ إنما يُعذِّبُه في نارِ جهنَّم والعياذُ بالله. قال اللهُ سُبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا - أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150-151]. فهذا الإيمانُ المفروضُ على المسلم يَجعلُه يعرفُ أقدارَ الرسُلِ والأنبياءِ الذين سبقتْ رِسالاتُهم نُبوَّةَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فيؤمنُ بهم جميعًا، ويعرفُ الرسالةَ والنبوةَ الخاتمةَ للرِّسالاتِ والنبوات، ألا وهي رسالةُ النبيِّ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-. (6) وهؤلاءِ الرُّسُل والأنبياءُ منهم مَن ذَكَرَهُ اللهُ سُبحانه في القرآنِ العظيمِ، ومنهم مَن لَم يَذكُرْه. قال اللهُ سُبحانه وتَعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: 164]. والذين قصَّهم اللهُ علينا في القرآنِ العظيمِ هم: إبراهيم، إسحاقُ، يَعقوب، نُوح، داوُد، سُليمان، أيُّوب، يوسُف، موسَى، هارُون، زكريَّا، يَحيى، عِيسَى، إِلْياس، إسْماعِيل، الْيَسَع، يونُس، لُوط، هُود، صالِح، شُعَيْب، إِدْرِيس، ذُو الكِفْل، آدمُ. فهؤلاءِ أربعةٌ وعِشرون نبيًّا، قصَّهم اللهُ سُبحانه علينا في القرآنِ العظيم. (7) والخامسُ والعشرون منهم هو خاتَمُهم، وآخِرُهم، وسيِّدُهم، وهو رسولُ الإسلامِ -عليه الصلاةُ والسَّلام-، المبعوثُ رحمةً للعالَمين، الذي قال الله سبحانه وتعالى فيه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]. وقد قال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عن نفسِه: "أنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ وَلا فَخْرَ". ــــــــــ (1) اختارَ واستخلَص. (2) هو كُل ما يُعبَد مِن دونِ الله. (3) وهم العرَب الذين أرسلَ اللهُ إليهم نبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم. (4) أي: يجعلُ قلوبَهم طاهِرةً وأعمالَهُم طَيِّبةً. |
(8) ويجبُ على المسلمِ أنْ يعلمَ أنه ما مِن أمَّة مِن الأمَمِ السابقةِ في جميعِ العُصورِ الماضيةِ إلا وقد أرسلَ اللهُ سُبحانه إليها رَسولًا يَدعُوها إلى الله ويُرشِدُها إلى الحق. قال اللهُ سبحانه: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. وقال جلَّ شأنُه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ} [يونس: 47]. وقال: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} [النحل: 63]. وهؤلاء الرُّسُلُ جميعًا -وإنْ لم تُذكرْ أسماؤُهم في القرآنِ العظيم- فيجبُ الإيمانُ بهم إيمانًا مُجْمَلًا. (9) والرسولُ الذي يبعثُه اللهُ سُبحانه إلى أمَّتِه هو بَشرٌ مِن جنس الأمةِ نفسِها، لكنَّ فيه صفاتٍ جَليلةً، ومزايا كريمة، لا تتوفرُ إلا فيه مِن أمَّتِه. قال اللهُ سُبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا(1)وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]. وقال سُبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. فالنبوةُ أو الرسالةُ مِنحةٌ غاليةٌ مِن اللهِ سُبحانه، يَخُصُّ بها بعضًا مِن عِبادِه، وهم -كما ذكرتُ- ذَوُو خصائصَ فاضِلة، وفضائلَ كامِلة؛ ليستَطيعوا القيامَ بواجباتِ الرسالة، ولِيَكونوا مثالًا كريمًا يُقتدَى به في أمورِ الدِّين والدُّنيا. (10) والرسولُ -لكونِه بَشرًا مخلوقًا لله- يتعرَّض لِمَا يتعرضُ له غيرهُ مِنَ الصحةِ والمرض، والقُوَّة والضَّعف، والحياةِ والموت. قال الله سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ(2)وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} [آل عمران: 144]. (11) وأيُّ رسولٍ مِن الرُّسلِ السابقِ ذِكرُهُم -لِكونِه بَشرًا مَخلوقًا للهِ- لا يتصرَّفُ في الكَوْن، ولا يَملِكُ النفعَ أو الضُّر، ولا يؤثِّرُ في إرادةِ الله، ولا يعلمُ مِن الغَيبِ إلا ما علَّمَه اللهُ إيَّاه؛ كما قال سُبحانه وتَعالى: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188]. (12) الأنبياءُ جميعًا -صلواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم- كانو ذَوِي غايةٍ واحدة، وهدفٍ واحد؛ ألَا وهو: إنقاذُ الناسِ مِن الضَّلال، وإخراجُهُم مِن الظلماتِ إلى النُّور؛ فكانُوا -عليهم الصلاةُ والسَّلام- دعاةَ خَيرٍ، وأئِمةَ إصلاحٍ، كما وَصفَهُم ربُّنا سُبحانه في القرآنِ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]. وكان كلُّ واحدٍ منهم يأتي بعدَ الآخَرِ ليُتَمِّمَ دَعْوَتَه، ويُكمِل طريقَه، حتى تَمَّمَ اللهُ دِينَه، وختمَ رُسُلَه وأنبياءَه بِخاتَمِهم وسيِّدِهم؛ رسولِ اللهِ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، فكان دينُه خُلاصةَ الأديانِ السابقة، وكانت دعوتُه هي الدعوةَ التامةَ الباقيةَ إلى قيامِ الساعة، كما قال سُبحانه وتعالى في القرآنِ العظيم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].ـــــــــــــــــــــــ (1) لتبليغِ أوامِر الله إلى الإنسِ مِن الرسُل؛ ليقومَ هؤلاءِ بتبليغِ شرائِع اللهِ وأوامِره إلى بقيةِ الخلْق. (2) أي: حَصلَ لكم ضَعفٌ وتَراجُع بسببِ ذلك. |
- 8 - اليوم الآخر (1) الإيمانُ باليومِ الآخرِ ركنٌ أساسي مِن أركانِ الإيمان، وجزءٌ هام مِن أجزاءِ معرفةِ العبد بِربِّه. كيف لا، وهو الذي يُحققُ للإنسانِ معرفةَ المصيرِ الذي سينتهي إليه هذا الوجود؛ بِبَرِّهِ وبَحْرِه، وسُهوله وجِباله، وإنْسِه وحيوانِه، والخلقِ كلِّه بِصُوَرِه كلِّها؟ (2) فإذا عرف الإنسان ما سيصيرُ هو إليه بِمالِه وشبابه، وبِداره وأبنائه؛ يُمكِنُ له -حينئذٍ- أن يعيشَ حياتَه كما يريدُ اللهُ سُبحانه منه؛ مِن عبادةٍ وطاعةٍ وفريضةٍ افترضها ربُّه عليه، ويُمكنُ له -أيضًا- أن يُحدد هدفَه مِن هذه الحياة، وأن يتخذَ من الوسائل والذرائع والأساليبِ ما يُوصِلُه إلى الهدف، ويَبْلُغ به الغاية. أما الذي فقد هذه المعرفة، ولم يقفْ عليها، ولم يؤقِن قلبُه أنَّ لهذه الحياةِ يومًا آخِرًا، به تكون نهايتُها وخاتمتُها؛ فإن حياتَه ستكونُ حياةً لا قيمةَ لها، ولا هدف لها، ولا غايةَ منها. (3) ولقد بيَّن لنا ربُّنا سبحانه وتعالى في القرآنِ العظيم أنه لم يَخلقْ خَلقَهُ مِن غير هدفٍ كبير، ولا غايةٍ سامية، بل خَلَقَهم لأسمى هدف، وأكملِ غاية. وإن ربَّنا سبحانه لما خلقَ الإنسانَ؛ سخَّر له ما في السماوات وما في الأرض، وجعله سيدًا للأرضِ وما فيها، فهل هذا كلُّه كان دون غايةٍ أو غرض؟ هذا شيءٌ يتنزَّهُ اللهُ سبحانه عنه. قال اللهُ سُبحانه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ - فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115-116]. (4) يبدأ اليومُ الآخِرُ بفَناء عالَمِنا هذا، فيموت كلُّ مَن فيه مِن الأحياء، وتتبدل الأرضُ غير الأرض والسماوات. ثم يُحيي الله سبحانه وتعالى مَن في القبور مِن الأموات، ويَرُد إليهم الحياةَ مرةً أخرى. قال الله سبحانه وتعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى - أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً(1)مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى - ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً(2)فَخَلَقَ فَسَوَّى - فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى - أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36-40]. (5) وبعد هذه الحياة الأخرى، يحاسبُ الله سبحانه كلَّ فردٍ من الناسِ على ما عمِل في حياتِه الدنيا مِن خير أو شرٍّ. فمَن كان خيِّرًا في الدنيا: يعمل الخير، ويقوم بالأعمال الصالحة؛ فيكافئهُ الله على عَملِه هذا بالجنة. ومَن كان سيِّئًا في الدنيا: يعمل الشرَّ، ولا يؤدي ما فرضه اللهُ عليه مِن الصالحات؛ فيَجزيهِ اللهُ جزاءَ ما قدَّمَ مِن سوءِ عملِه نارَ جهنَّم. (6) والإيمانُ باليوم الآخِر مُهمٌّ جِدًّا، وتظهرُ أهميتُه بصورةٍ واضحة عند قراءة الآياتِ القرآنيةِ التي ذَكَرَتْه: قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [البقرة: 177]. فأورد الله ذِكرَ اليوم الآخِر مع الإيمانِ به سحبانه، وليس هذا إلا لأهمِّيَّته الكبرى ورُكْنِيَّتِه العظمى. والذي يقرأ القرآنَ الكريم يرى الآياتِ الكثيرةَ التي تَذكُره، وتتحدث عنه، فلا تكاد سورةٌ تخلو مِن الحديث عنه، مع تقريبه إلى الأذهان والعُقول، مرةً بالحجة والبرهان، ومرةً بضرب الأمثال. ــــــــــــ (1-2) مِن المراحِل التي يمرُّ بها الإنسانُ قبل أن يكتملَ خلقُه. |
(7) والقارئ للآياتِ القرآنية يجدُ أنَّ لليوم الآخِر أسماءً عدةً واردةً فيه، وكلُّ اسمٍ مِن هذه الأسماء يدلُّ على واقعةٍ أو حادثةٍ مما سيكونُ في ذلك اليوم العظيم؛ اليومِ الآخِر. فهو "يومُ البَعْث"(1)؛ كما قال ربُّنا سُبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 56]. وهو "يومُ القِيامة"(2)؛ كما قال ربُّنا سُبحانه أيضًا: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]. وهو "السَّاعة"؛ كما قال ربُّنا سُبحانه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]. وهو "يومُ الحِساب"؛ كما قال ربُّنا سبحانه: {إِنِّي عُذْتُ(3)بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر: 27]. ولهذا اليوم الآخِر أسماءٌ أخرى كثيرة غيرُ هذه. (8) ولقد اهتمَّ القرآنُ هذا الاهتمامَ كلَّه باليومِ الآخِر لأسبابٍ عديدةِ؛ أهمُّها: أولًا: أنَّ المشركين مِن العرب كان يُنكِرونه ولا يَقبَلونَه. ثانيًا: أنَّ الإيمانَ باليوم الآخِر يَجعل للحياةِ قدْرًا، وغايةً، وهَدَفًا. ثالثًا: أنَّ بعضَ أصحاب الدِّيانات الأخرى الباطلةِ كانوا يَظنُّون اليومَ الآخِرَ شيئًا آخَرَ مُغايرًا للحقِّ الذي يَجبُ قَبولُه. (9) ولقد دلَّت الآياتُ الكريمةُ والأحاديثُ النبويةُ أنَّ بدايةَ اليومِ الآخرِ تكونُ بإحداثِ تغييراتٍ عامَّةٍ في هذه الدُّنيا التي نعيشُها بأرضِها وسمائِها: فتتشقَّق السَّماء. وتتناثَر النُّجوم. وتتفتَّتُ الجِبال. ويَخرَبُ كلُّ شيءٍ. قال اللهُ سُبحانه وتعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا(4)لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم: 48]. (10) والوقتُ الذي يكونُ به اليومُ الآخِرُ مما لا يعلَمُه إلى الله سُبحانه وتعالى، فلم يُطْلِعْ عليه أحدًا مِن خلْقِه؛ لا نبيًّا مُرسَلًا، ولا مَلَكًا مُقرَّبًا. قال الله سبحانه: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت: 47]. وقد كان بعضُ الصحابةِ يَسألون عن وقتِ الساعة وزمنها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلَّم-، ويُكرِّرون السؤالَ، فأمره اللهُ سُبحانه أن يَرُدَّ إليه وحدَه عِلمَها ومعرفةَ وقتِها. قال اللهُ سُبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا(5)قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا(6)لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً(7)يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ(8)عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 187]. (11) بعد أن يَرد اللهُ سُبحانه الحياةَ إلى الناسِ مِن جديد، ويُخرجُهم مِن قُبورِهم، يَحشُرُهم(9)إليه، ويجمعُهم لدَيْهِ؛ لِيُحاسِبَ كلَّ فرْدٍ منهم على ما قدَّم مِن عَمَل. فتشهدُ لأرضُ بما حَدث عليها. قال اللهُ سُبحانه وتعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا - وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا - وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا - يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا - بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا - يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ - فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ - وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [سورة الزلزلة]. وليس ذلك فقط، بل إنَّ الألْسِنَةَ لَتشهَد، والأيدي لَتتكلَّم، وأيضًا الأرجُل، والجُلود، حتى لا يَقدِرَ أحدٌ على الكَذبِ أو الفِرار. قال الله سبحانه: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 24-25]. وهكذا: تتم حُجَّة الله على العالَمين، فمَن قدَّم خيرًا من العمل؛ كانت الجنةُ مُستقرَّهُ، ومَن أساء لنفسِه، وعَصى ربَّه؛ جُوزِيَ بالنارِ وبِئس القَرار. ـــــــــــــ (1) إحياءُ الناسِ مِن قُبورِهم للحِساب. (2) أي: عندما يقومُ الناسُ لربِّ العالَمين. (3) لَجَأتُ. (4) ظَهَرُوا. (5) أي: متى موعِدُها؟ وما هو وقتُها؟ (6) أي: يُظهِر أمرَها. (7) فجأةً. (8) أي: عالِم بها. (9) يجمَعُهم. |
الساعة الآن 09:47 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.5.2 TranZ By
Almuhajir