![]() |
لو سمحتوا اخواني ابغا انا ابا تقرير عن stress |
الشعر من أهم الفنون التي تميز بها العرب. فللشعر العربي طبيعة فريدة تضعه في مكانة خاصة على صعيد هذا الفن في العالم أجمع. الشعر العربي الذي يعكس في نبضه الأمة التي صنعته واللغة التي تتحدث بها يعتمد أساساً على الإيقاع الصوتي والتعابير القوية المقتضبة. ولهذا تكون الأبيات الشعرية جذلة والشعراء يميلون لتفضيل بضعة مقاطع مذهلة بدلاً من الأسلوب القصصي المطول. وبالفعل فإنك تجد أن روائع الشعر الربي قصيرة وتترك أثراً فائقاً على القراء العرب. وعلى امتداد التاريخ العربي كان القادة يجدون الإلهام والتسرية عن النفس في قصائد الشعراء في قصورهم. في هذا الجو الشعري المتوهج, قدر لرجل بعينه أن يصبح أشهر الشعراء العرب على الإطلاق. إنه أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي. وقد اكتسب شهرته بفضل مجازيته الراقية ولغته المفعمة بالتعابير القوية. وقد كتبت أكثر من 25 دراسة لاستقصاء وشرح المعاني المتضمنة شبه الخفية في أشعاره. ولربما كانت هذه المعاني غير مباشرة في رمزيتها بالنسبة للقارئ العادي. فعلى سبيل المثال، يصف المتنبي في أحد أشهر أبياته تقدم مجموعة من الجند وكأنهم حشد ضخم جداً: خميس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجوزاء منه زمازم بعض من شرحوا هذا البيت وصفوه بكلمات سطحية تعني أن الجند كانوا يتقدمون في قلب الغبار الذي تثيره خيولهم وحواسهم يلفها الغموض في ذلك الاضطراب السياسي, ولهذا على الرغم من أنهم كانوا يعتقدون أنهم يرون الواقع, فإنهم كانوا في الحقيقة يسمعون اللغط المحيط بهم. ومن المؤسف أنه دائماً ما يتم التأكيد على أن أشعار المتنبي تفقد جوهرها تماماً حين ترجمتها، ولذا فإن ما يعتبر من قبل العرب درجة من درجات الكمال في الأدب العربي, نادراً ما يكون كذلك خارج العالم العربي بعد ترجمته. حياة المتنبي ولد أبو الطيب المتنبي عام 915 للميلاد بمدينة الكوفة في العراق. ويزعم البعض أن والده كان بائع ماء ينتسب لأصول رفيعة الشأن من عرب الجزيرة العربية. وفي سنوات فتوته, نال المتنبي قدراً طيباً من التعليم في مدينة دمشق بالشام، وهو التعليم الذي تمكن من تحقيقه جزئياً بفضل موهبته الشعرية. كما تعلم في صباه عادات ولهجة قبيلة بني كلب العربية البدوية لأنه نشأ في كنفها. في شبابه لقب بالمتنبي دون أن يكون معروفاً حتى الآن بشكل قاطع السبب الحقيقي وراء هذا اللقب. يقول بعض الدارسين إنه لقب به لأنه شبه نفسه بالنبي صالح في بعض أبياته. فيما يقول آخرون إن نشاطاته السياسية هي التي أكسبت الشاعر الشاب هذا اللقب الغريب. فقد كان يتزعم حركة ثورية وادعى النبوة وقاد ثورة في مسقط رأسه الكوفة عام 932. وقد قمعت هذه الحركة ووضع هو في السجن. وفي هذه المرحلة من حياته بدأ بكتابة أولى قصائده. لم تنته حياة المتنبي السياسية بفشل حركته. فطوال حياته كان يطمح لاكتساب النفوذ السياسي رغم أن طموحاته لم يكتب لها التحقيق أبداً. فقد رحل من العراق إلى الشام ومصر وفارس بحثاً عن حاكم كبير الشأن يمكن أن يجعله عاملاً له على أحد الأقاليم. غير أن مهارات المتنبي في إدارة أمور الحكم لم تجد من يعترف بها أبداً رغم أن موهبته الشعرية كانت تجعل المجد يسبقه أينما ذهب. وقد قادته طموحاته السياسية بادئ الأمر إلى مدينة حلب في الشمال السوري حيث انضم لبلاط أميرها سيف الدولة الحمداني. ومنذ وصوله إليها عام 948, حظي المتنبي بحماية سيف الدولة طوال تسع سنين تقريباً قبل أن تتسبب كبرياؤه وطموحاته السياسية في خسارته لود راعيه وتجعل الرحيل عن حلب الخيار الوحيد المتاح أمامه. وفي عام 957 اضطر للسفر إلى مصر التي كان يحكمها الإخشيديون. وهناك كسب الشاعر حماية حاكمها أبو المسك كافور الإخشيدي, غير أن هذا الود لم يدم طويلاً. ووجد نفسه مضطراً عام 960 للهرب من مصر بعد أن كتب عدة قصائد مقذعة هجا فيها كافور. هذه الحياة المضطربة أخذت المتنبي بعد مصر إلى شيراز في إيران حيث عمل في بلاط حاكمها عضدالدولة شاعراً حتى عام 965. وفي ذلك العام لقي المتنبي مصرعه حين هاجمته قريباً من بغداد عصابة من قطاع الطرق - سبق له أن هجا قائدها - في طريق عودته إلى العراق. كيف نفهم المتنبي جموح الخيال والاستعارات الحالمة والمبالغات في الصور مما نجده في شعر المتنبي جعلت الكثيرين يصفونه بأنه المثال الأبرز لشعر المديح والفخر. ولنفهم أهمية المتنبي في الشعر العربي, علينا أن ننظر عن كثب لأنواع الشعر السائدة في عصره. تنقسم الأشكال الشعرية السائدة حينها وفق القواعد التقليدية إلى شعر الغزل الذي يضم قصائد الحب والقطعة أو المقطوعة وهي نوع أدبي أصغر وأقل جدية يتحدث عن الجانب الهزلي من الحياة وهناك القصيدة وهي الأسلوب الذي اختاره المتنبي بأسلوبه التأكيدي الأكثر ذاتية، ولكن ببعض التعديل. ولدت القصيدة الشعرية مع فجر المجتمع العربي قبل الإسلام. وتطورت لتصبح الشكل الأول للأدب العربي والذي كان أساساً شعراً يتحدث عن الشجاعة والإقدام تفخر به القبائل في بدايات العصور العربية. القصيدة في مضمونها تصف مراحل من حياة كاتبها وتجاربه أو حياة وتجارب قومه. وكان هذا الوصف يصاغ بأسلوب مفعم بالقوة والرصانة. بنية شعر القصيدة تتضمن ما بين عشرين وأكثر من مئة بيت. كما أن أسلوب القصيدة القائم على الالتزام بالبحر والقافية نفسيهما في كل الأبيات لا يزال سائداً حتى اليوم. يبدأ الشاعر القصيدة بمقدمة هي بالضرورة أبيات غزل تعرف باسم النسيب. بعدها يأتي وصف الشاعر لتجربته التي يريد التحدث عنها. ثم ينتقل إلى الخاتمة التي تتضمن جزءاً يمدح فيه معطيه ويهجو أعداءه. وفي أحوال نادرة, يحس الشاعر بالحرية لينهي قصيدته بأبيات يفخر بها بنفسه وقد اعتاد المتنبي على فعل ذلك مراراً. وكانت القصيدة شديدة الجاذبية للعرب، وأصبحت تعتبر الشكل الشائع لشعر المديح, وهو عموماً نص شعري يمتدح فيه الشاعر زعيماً معيناً يرفع فيه من شأنه وخصاله. وإلى جانب ذلك كانت القصيدة تكتب أيضاً للتعبير عن المواضيع الفكرية. إذ في سياق تطورها أصبحت المقدمة أحياناً تتحدث عن الطبيعة أو الحكمة. وفي أحيان نادرة كانت المقدمة تستخدم ليثبت فيها الشاعر فصاحته وتمكنه من اللغة في تعبيره عن نفسه. مضى المتنبي بالقصيدة خطوة أخرى وبز كل شعائرها بفضل ما وصفه الدارسون بأنه "جموح خياله وجرأته". وفي نتاجه الشعري جرب المتنبي ومزج بين التقاليد الأدبية في الشام ومصر والعراق والمعايير الأدبية العربية التقليدية الصارمة. وقصائده التي كتبها - مدائح لرعاته بأبيات مقتضبة وجذلة لا تزال ترددها الألسن حتى اليوم- كانت دائماً تلهب خيال العرب وخصوصاً زعمائهم. إذ دائماً ما تمتع المتنبي بقدر كبير من المعجبين بقصائده المفعمة بعباراته القوية وجرسها الرفيع. ومرة أخرى, فإن القارئ لأشعاره المترجمة من غير المحتمل أن يشعر بقدر كبير من المتعة الفنية مثلما يفعل قارئه العربي. كان المتنبي الذي ملأ الفخر بالنفس رأسه يتغنى في كثير من الأحيان بمآئره مثلما نجد في بيته الشهير: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم إن فهماً أعمق للقامة الشعرية العالية للمتنبي تتطلب معرفة المهارات التي يتوجب على الشاعر العربي أن يمتلكها. أولاً يجب أن تكون للشاعر ثقافة عالية وبالتالي أن يكون حسن التعليم. كما يتوجب عليه أن يتجاوز مجرد المعرفة العامة بالأدب التقليدي العربي والفارسي. أضف لذلك أن عليه تحقيق قدر طيب من المعرفة بمختلف الميادين العلمية وأهمها إطلاعه على الأساطير والقصص والمعتقدات العامة والتقاليد الشعبية. كما يتطلب الأمر منه المقدرة على بناء مزيج من هذه العناصر وغيرها وأن يشير إليها في قصائده. هذا المزيج كان فناً يمسك المتنبي بناصيته وأعطى به صوراً شعرية خيالية تعتمد في أغلب الأحيان على هوايات الحكام مثل الشطرنج والصيد والفروسية وغيرها. وشأن غيره من الشعراء في عصره, تلاعب المتنبي بالتوريات للتعبير عن رأيه بأسلوب ممتع. بل إنه مضى بهذا الفن شوطاً آخر حين كتب قصائد يمكن أن يكون لها معنى آخر حين تقرأ بشكل عكسي كلمة بكلمة. وكان المتنبي أيضاً قادراً على استخدام التاريخ الجُّملي, وهي أرقام تدل على تاريخ حدث معين تنتج عن احتساب القيم العددية لجملة أو لبيت شعري حين فك رموزه ويريد منها الشاعر أن يذكر تاريخ حدث معين أو تجربة يتحدث عنها في قصيدته. ويتضح هذا في هذه الأبيات من إحدى قصائد المتنبي: المجد عوفي إذا عوفيت والكرم وزال عنــك إلى أعدائــك الألــم وراجع الشمس نور كان فارقها كأنمــا فــقده في جسمهــا سقــم تفرَّد العرب في الدنيــا بمحتده وشارك العرب في إحسانه العجم كان فخر المتنبي بنفسه يصل في كثير من الأحيان حدود الغرور. وكان هذا الفخر هو الأساس الذي قام عليه جزء كبير من أشعاره. وبشكل ما كان المتنبي شخصية مثيرة للجدل في عصره. فقد حقق شعره نجاحاً كبيراً بغنى كناياته وقصائده البارعة سواء في المديح الماكر أو الهجاء المر. وكانت مواضيع قصائده تثير في الذهن دوماً الخصال التي يجلها العرب ولا تفقد قيمتها مع الزمن مثل الصدق في الوعد والاعتزاز بالنفس والصدق في المعشر والشجاعة والفروسية. النتاج الشعري للمتنبي اجتذب في حياته ولا يزال يجتذب حتى الآن قدراً كبيراً من الاهتمام. وشأن الكثير من الشخصيات الجدلية في التاريخ, فإن الاهتمام الذي حظيت به قصائده أعطته الشعبية وفتحت أمامه أبواب قصور الحكام في مراكز الإشعاع الثقافي العربي في القرن العاشر الميلادي. وحتى اليوم لا يزال المتنبي صعباً على الفهم نوعاً ما. فهناك هالة تشوبها بعض الضبابية تلف أعماله وشخصيته، كما ولا يعرف الكثير عن حياته. وربما يساهم هذا في لفت انتباه المزيد من القراء في يومنا لتراثه. ربما يكون قد كشف لنا المزيد عن حياته في قصائده. وربما يبقى هذا مضافاً إليه شخصيته وموهبته الشعرية, مصدراً للشعور بالإثارة والإلهام والجاذبية في نفوس قرائه. بقلم د . زهير غازي زاهى المتنبي خلاصة الثقافة العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة. هذه الفترة كانت فترة نضج حضاري في العصر العباسي ، وهي في الوقت نفسه كانت فترة تصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العالم العربي . فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء، وقادة الجيش ومعظمهم من الأعاجم، ثم ظهور الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام ، ثم تعرض الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية ثم الحركات الدموية في داخل العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ثم هم وسائل صلة بين الحكام والمجتمع بما تثبته وتشيعه من مميزات هذا الأمير وذلك الحاكم ، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلا يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعرا معروفا استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب المتناقض الغارق في صراعه الاجتماعي والمذهبي كانت نشأة المتنبي وقد وعي بذكائه ألوان هذا الصراع وقد شارك فيه وهو صغير، وانغرست في نفسه مطامح البيئة فبدأ يأخذ عدته في أخذه بأسباب الثقافة والشغف في القراءة والحفظ. وقد رويت عن أشياء لها دلالاتها في هذه الطاقة المتفتحة التي سيكون لها شأن في مستقبل الأيام والتي ستكون عبقرية الشعر العربي. روي أنه تعلم في كتاب كان يتعلم فيه أولاد أشراف الكوفة دروس العلوية شعرا ولغة وإعرابا. وروي أنه اتصل في صغره بأبي الفضل بالكوفة، وكان من المتفلسفة، فهوسه وأضله. وروي أنه كان سريع الحفظ، وأنه حفظ كتابا نحو ثلاثين ورقة من نظرته الأولى إليه، وغير ذلك مما يروى عن حياة العظماء من مبالغات . . . ولم يستقر في موطنه الأول الكوفة وإنما خرج برحلته إلى الحياة خارج الكوفة وكأنه أراد أن يواجه الحياة بنفسه ليعمق تجربته فيها بل ليشارك في صراعاتها الاجتماعية التي قد تصل إلى أن يصطبغ لونها بما يسيل من الدماء كما اصطبغ شعره وهو صبي . . هذا الصوت الناشئ الذي كان مؤهلا بما يتملك من طاقات وقابليات ذهنية أدرك أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من آفاق الكوفة تزيد من تجاربه ومعارفه فخرج إلى بغداد يحاول أن يبدأ بصراع الزمن والحياة قبل أن يتصلب عوده، ثم خرج إلى بادية الشام يلقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم ويمدحهم فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص. كان في هذه الفترة يبحث عن فردوسه المفقود، ويهيئ لقضية جادة في ذهنه تلح عليه، ولثورة حاول أن يجمع لها الأنصار، وأعلن عنها في شعره تلميحا وتصريحا حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرا : أبـا عبـد الإلـه معاذ أني خفي عنك في الهيجا مقامي ذكرت جسيـم ما طلبي وأنا تخاطر فيـه بالمهج الجسام أمثلـي تـأخذ النكبات منـه ويجزع من ملاقاة الحمام ؟ ولو برز الزمان إلى شخصا لخضب شعر مفرقه حسامي إلا أنه لم يستطع أن ينفذ ما طمح إليه. وانتهى به الأمر إلى السجن. سجنه لؤلؤ والي الأخشيديين على حمص بعد أن أحس منه بالخطر على ولايته، وكان ذلك ما بين سنتي 323 هـ ، 324 هـ . البحث عن النموذج : خرج أبو الطيب من السجن منهك القوى . . كان السجن علامة واضحة في حياته، وكان جدارا سميكا اصطدمت به آماله وطموحاته، وأحس كل الإحساس بأنه لم يستطع وحده أن يحقق ما يطمح إليه من تحطيم ما يحيط به من نظم، وما يراه من فساد المجتمع. فأخذ في هذه المرحلة يبحث عن نموذج الفارس القوى الذي يتخذ منه مساعدا على تحقيق طموحاته، وعلى بناء فردوسه. وعاد مرة أخرى يعيش حياة التشرد والقلق، وقد ذكر كل ذلك بشعره. فتنقل من حلب إلى إنطاكية إلى طبرية حيث التقى ببدر بن عما سنة 328 هـ، فنعم عند بدر حقبة، وكان راضيا مستبشرا بما لقيه عنده، إن الراحة بعد التعب، والاستقرار بعد التشرد، إلا أنه أحس بالملل في مقامه، وشعر بأنه لم يلتق بالفارس الذي كان يبحث عنه والذي يشاركه في ملاحمه، وتحقيق آماله. فعادت إليه ضجراته التي كانت تعتاده، وقلقه الذي لم يبتعد عنه، وأنف حياة الهدوء إذ وجد فيها ما يستذل كبرياءه. فهذا الأمير يحاول أن يتخذ منه شاعرا متكسبا كسائر الشعراء، وهو لا يريد لنفسه أن يكون شاعر أمير، وإنما يريد أن يكون شاعرا فارسا لا يقل عن الأمير منزلة. فأبو الطيب لم يفقده السجن كل شيء لأنه بعد خروجه من استعاد إرادته وكبرياءه إلا أن السجن كان سببا لتعميق تجربته في الحياة، وتنبيهه إلى أنه ينبغي أن يقف على أرض صلبة لتحقيق ما يريده من طموح. لذا فهو أخذ أفقا جديدا في كفاحه. أخذ يبحث عن نموذج الفارس القوي الذي يشترك معه لتنفيذ ما يرسمه في ذهنه. أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب، ومحاولة الإبعاد بينهما مما جعل أبا الطيب يتعرض لمحن من الأمير أو من الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير، كان يرى ذلك استهانة وإذلالا عبر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلا بصديق له هو أبو الحسن علي ابن أحمد الخراساني في قوله : لا افتخار إلا لمن لا يضام مدرك أو محارب لا ينام وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس الأعور أحد الكائدين له عند بدر. وظل باحثا عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ وعن طريقه اتصل بسيف الدولة سنة 337 هـ وانتقل معه إلى حلب. في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده على تحقيق ما كان يطمح إليه. فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع بملاحمه الشعرية. استطاع أن يرسم هذه الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم. فيها تاريخ واجتماع وفن. فانشغل انشغالا عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما، وكان سيف الدولة يشعر بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر ويحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من الشعراء. وكان هذا كبيرا على حاشية الأمير . وكان أبو الطيب يزداد اندفاعا وكبرياء واحتقارا لكل ما لا يوافق هذا الاندفاع وهذه الكبرياء . . في حضرة سيف الدولة استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرما مميزا عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلى أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعدا وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضا هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحيانا بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه . . . ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان. وهذا ملكان يغري حساده به فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح، وأحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير. ولربما كان هذاالاتساع مصطنعا إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما، وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ يتصدع، اعتاده قلقه واعتادته ضجراته وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وكان موقفه مع ابن خالوية بحضور سيف الدولة واعتداء ابن خالوية عليه ولم يثأر له الأمير أصابته خيبة الأمل، وأحس بجرح لكرامته لم يستطع أن يحتمل فعزم على مغادرته ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب والعتاب الصريح، ووصل العتاب إلى الفراق. وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها: لا تطلبن كريمــا بعد رؤيته إن الكرام بأسخــاهم يدا ختموا ولا تبــال بشعر بعد شاعره قد أفسد القول حتى أحمد الصمم البحث عن الأمل : فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية سيف الدولة. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلبا، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، ولذا بقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة من كافور حتى كادت الصلة تعود بينهما، فارق أبو الطيب حلبا إلى مصر . . وفي قلبه غضب كثير، وكأني به أطال التفكير في محاولة الرجوع إلى حلب وكأني به يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها ولكن لا يرجع إليها شاعرا فقط إنما يزورها ويزور أميرها عاملا حاكما لولاية يضاهي بها سيف الدولة، ويعقد مجلسا يقابل سيف الدولة . . من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع . . دفع به للتوجه إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام . . وفي مصر واجه بيئة جديدة، ومجتمعا آخر، وظروفا اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه، وهو عند سيف الدولة . . ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا أنه قصده آملا، ووطن نفسه على مدحه راضيا لما كان يربطه في مدحه من أمل الولاية، وظل صابرا محتملا كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره تنعصر نفسه، ويحس بالحسرة على فراقه صديقه القديم. وفي هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة وعما كان يساوره من الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة، ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي أسود غير عربي إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت . . وغربته الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساسا يشعره بالتمزق في كثير من الأحيان . . وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه فيستمع لمديحه وإكباره على لسان الشعراء بدلا من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه، ولربما كان يريد إطفاء غروره بهذا إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته التي رأيناها بابا سهلا لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه . . وأكاد أعتقد أنه كان مستعدا للتنازل عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره . . وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحيانا وإلى المواقف الحادة . . كل ذلك يأخذ طابعا في ذهن الحاكم مغايرا لما في ذهن الشاعر . . هكذا بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور . . وكلما اتسعت المسافة كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر، ولو وهما، بأزورار كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه وأحس بالمرارة إحساسا حادا . . لقد كان هو يحس بالحق، وبأنه لم يطلب فوق حقه، ولم يتصرف بما هو خطأ لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد إلا أنه هذا التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية كافور، وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر وعادة المتملقين من الوجهاء يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسورا بينهم وبين سيدهم . . هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين خصومهم . . . أما أبو الطيب فلم يكن يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يكن يفكر بهذا اللون من التصور، وإنما كان صريحا بكل شيء في رضاه وسخطه صريحا بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل. هذه الصراحة كثيرا ما أوقعته في مواقف حرجة، عند سيف الدولة، وهنا أيضا عند كافور، لذا صارت للمتنبي صورة الغول في نفس كافور، وبأنه المخيف الذي سينزو على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك، وهكذا ظل الشاعر يرغب، ويلح في رغبته، وظل كافور يداوره ويحاوره، وهو لون من الصراع الدرامي بين حاكم يحسن الاحتيال والمداورة وشاعر صريح لا يحسن من ذلك شيئا حتى وصل الشاعر إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتا، وشعر كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حينا والذهب حينا آخر . . إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، ولذعه الندم على ما فعل بنفسه في قصده إياه . . وعاودته ضجراته التي أحس بها وهو عند أكثر أصدقائه إخلاصا وحبا وظل يخطط إلى الهرب، ويصر على تحدي كافور ولو بركوب المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى، وخرج من مصر، وهجا كافورا بأهاجيه المرة الساخرة . الاضطراب واليأس : إن تحدي أبي الطيب لسلطة كافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة المتفجرة من السخط والغضب في هجائه، كل ذلك يدل على مبلغ اليأس والندم في نفسه، ويبدو لي أنه كان حائرا حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من التوجه إلى كافور إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر . . . ويبدو أنه كان قد فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر لذا نراه وكأنه أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه، والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه السلطة، نجده تحداه في هروبه، ثم نقرأ هذا الفخر بالشجاعة والفروسية في اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته : ضربت بها التيه ضرب القمار إمــا لهـذا وإمــا لـذا إذا فزعت قدمتـها الجيــاد وبيض السيوف وسمر القنا فلمـا انحنـا ركزنـا الرماح فـوق مكــارمننا والعمل وبتنــا نقبـــل أسيافنــا ونمسحها من دماء العــدى لتـــعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتــى عاد إلى الكوفة وهو أشد الحاجة إلى الاستقرار إلا أنه لم يستطع الإقامة فيها طويلا، فذهب إلى بغداد حيث مجلس المهلبي الذي يجتمع فيه جماعة من الشعراء والأدباء، وكان المهلبي يطمع بمدح أبي الطيب فلم يحصل إلا على زيارة الشاعر لمجلسه. أزور أبو الطيب من جو الخلاعة والمجون الذي يحيط بالمهلبي ويظهر لي أنه كان منذ نزوله الكوفة كان يفكر في صديقه الحمداني وبأسباب الصلة به. فالشاعر لم يرد أن يتورط بمدح المهلبي والبويهيين في بغداد لكي يحافظ على العلاقة بينه وبين سيف الدولة لما كان بين سلطة بغداد وحلب من عداء. ثم أن أبا الطيب في هذه المرحلة التي ينال فيها من الشهرة والمجد لم يجد ما يحققه من مدحه للمهلبي، بل كان يراه أقل منه شأنا وأدبا . . وظل صامتا حتى عن رد الشعراء الذين حرضهم المهلبي عليه فهجوه أقذع الهجاء، فلم يجبهم، وكذلك حرض الحاتمي عليه فكانت تلك المناظرة الحاقدة التي سجلها الحاتمي في رسالته الموضحة. فكان أبو الطيب وقورا حينا وحادا أحيانا، ويغضي عن كل ذلك أوانا، وكان مكتفيا في لقاء محبي شعره وطالبي أدبه في دار صديقه علي بن حمزة البصري الذي كان قد نزل فيها. عاد إلى الكوفة بعد أن أقام في بغداد سبعة أشهر، ويظهر أنه أراد أن يبتعد عن هذا الجو الصاخب فيها ليستقر في مكان يفكر فيه بعقد أسباب الصلة بأمير حلب. وفعلا وصلت إليه هداياه وأرسل إليه شعرا ولم يطق الإقامة في الكوفة لما كان فيها من الحوادث الدموية بسبب هجوم القرامطة عليها، واشترك المتنبي في الدفاع عنها. وعاودته الرغبة إلى الرحيل إذ كان يجد فيه متنفسا عن قلقه ولما جاءته رغبة ابن العميد من أرجان في زيارته رحل إليه ومنه إلى عضد الدولة في شيراز. وكأن رحلته هذه كانت لقتل الفراغ الذي أحس به بعد طول معاناة ولامتصاص التمزق الذي كان يعانيه، وربما كان في نفسه غرض آخر هو تقوية صلته بعضد الدولة وذوي الجاه كابن العميد ليقوى مركزه في بغداد بل ليكون أقوى من صاحب الوزارة فيها الذي حرض من لديه من الشعراء على هجائه. وكان عضد الدولة يقيم بشيراز ويتطلع لخلافة أبيه للحكم في بغداد، وبحاجة لشاعر كبير يقدمه للناس ويعرفهم بخصاله. وفي طريق عودته إلى بغداد كان مقتله قريبا من دير العاقول 354 هـ وكان مع المتنبي جماعة من أصحابه وابنه محسد وغلامه مفلح اللذان قتلا معه على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي وجماعته. هذا بحث عن المتنبي الغالية هذا الي لقيته والسموحه على المساعده القصيره |
مسموح تعبتكم تسلم خويه ع المساعده بس اريد فيه مقدمه وخاتمه:ast7eee: |
انشاء الله الغاليه ما طلبتي مشكور اخوي نسيت الفراق على المساعده الطيبه الحين راح ارسل لك المقدمه والخاتمه فيه السموحه على التاخير |
المقدمة إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. أما بعد.. حياة المتنبي ولد أبو الطيب المتنبي عام 915 للميلاد بمدينة الكوفة في العراق. ويزعم البعض أن والده كان بائع ماء ينتسب لأصول رفيعة الشأن من عرب الجزيرة العربية. وفي سنوات فتوته, نال المتنبي قدراً طيباً من التعليم في مدينة دمشق بالشام، وهو التعليم الذي تمكن من تحقيقه جزئياً بفضل موهبته الشعرية. كما تعلم في صباه عادات ولهجة قبيلة بني كلب العربية البدوية لأنه نشأ في كنفها. في شبابه لقب بالمتنبي دون أن يكون معروفاً حتى الآن بشكل قاطع السبب الحقيقي وراء هذا اللقب. يقول بعض الدارسين إنه لقب به لأنه شبه نفسه بالنبي صالح في بعض أبياته. فيما يقول آخرون إن نشاطاته السياسية هي التي أكسبت الشاعر الشاب هذا اللقب الغريب. فقد كان يتزعم حركة ثورية وادعى النبوة وقاد ثورة في مسقط رأسه الكوفة عام 932. وقد قمعت هذه الحركة ووضع هو في السجن. وفي هذه المرحلة من حياته بدأ بكتابة أولى قصائده. لم تنته حياة المتنبي السياسية بفشل حركته. فطوال حياته كان يطمح لاكتساب النفوذ السياسي رغم أن طموحاته لم يكتب لها التحقيق أبداً. فقد رحل من العراق إلى الشام ومصر وفارس بحثاً عن حاكم كبير الشأن يمكن أن يجعله عاملاً له على أحد الأقاليم. غير أن مهارات المتنبي في إدارة أمور الحكم لم تجد من يعترف بها أبداً رغم أن موهبته الشعرية كانت تجعل المجد يسبقه أينما ذهب. وقد قادته طموحاته السياسية بادئ الأمر إلى مدينة حلب في الشمال السوري حيث انضم لبلاط أميرها سيف الدولة الحمداني. ومنذ وصوله إليها عام 948, حظي المتنبي بحماية سيف الدولة طوال تسع سنين تقريباً قبل أن تتسبب كبرياؤه وطموحاته السياسية في خسارته لود راعيه وتجعل الرحيل عن حلب الخيار الوحيد المتاح أمامه. وفي عام 957 اضطر للسفر إلى مصر التي كان يحكمها الإخشيديون. وهناك كسب الشاعر حماية حاكمها أبو المسك كافور الإخشيدي, غير أن هذا الود لم يدم طويلاً. ووجد نفسه مضطراً عام 960 للهرب من مصر بعد أن كتب عدة قصائد مقذعة هجا فيها كافور. هذه الحياة المضطربة أخذت المتنبي بعد مصر إلى شيراز في إيران حيث عمل في بلاط حاكمها عضدالدولة شاعراً حتى عام 965. وفي ذلك العام لقي المتنبي مصرعه حين هاجمته قريباً من بغداد عصابة من قطاع الطرق - سبق له أن هجا قائدها - في طريق عودته إلى العراق. كيف نفهم المتنبي جموح الخيال والاستعارات الحالمة والمبالغات في الصور مما نجده في شعر المتنبي جعلت الكثيرين يصفونه بأنه المثال الأبرز لشعر المديح والفخر. ولنفهم أهمية المتنبي في الشعر العربي, علينا أن ننظر عن كثب لأنواع الشعر السائدة في عصره. تنقسم الأشكال الشعرية السائدة حينها وفق القواعد التقليدية إلى شعر الغزل الذي يضم قصائد الحب والقطعة أو المقطوعة وهي نوع أدبي أصغر وأقل جدية يتحدث عن الجانب الهزلي من الحياة وهناك القصيدة وهي الأسلوب الذي اختاره المتنبي بأسلوبه التأكيدي الأكثر ذاتية، ولكن ببعض التعديل. ولدت القصيدة الشعرية مع فجر المجتمع العربي قبل الإسلام. وتطورت لتصبح الشكل الأول للأدب العربي والذي كان أساساً شعراً يتحدث عن الشجاعة والإقدام تفخر به القبائل في بدايات العصور العربية. القصيدة في مضمونها تصف مراحل من حياة كاتبها وتجاربه أو حياة وتجارب قومه. وكان هذا الوصف يصاغ بأسلوب مفعم بالقوة والرصانة. بنية شعر القصيدة تتضمن ما بين عشرين وأكثر من مئة بيت. كما أن أسلوب القصيدة القائم على الالتزام بالبحر والقافية نفسيهما في كل الأبيات لا يزال سائداً حتى اليوم. يبدأ الشاعر القصيدة بمقدمة هي بالضرورة أبيات غزل تعرف باسم النسيب. بعدها يأتي وصف الشاعر لتجربته التي يريد التحدث عنها. ثم ينتقل إلى الخاتمة التي تتضمن جزءاً يمدح فيه معطيه ويهجو أعداءه. وفي أحوال نادرة, يحس الشاعر بالحرية لينهي قصيدته بأبيات يفخر بها بنفسه وقد اعتاد المتنبي على فعل ذلك مراراً. وكانت القصيدة شديدة الجاذبية للعرب، وأصبحت تعتبر الشكل الشائع لشعر المديح, وهو عموماً نص شعري يمتدح فيه الشاعر زعيماً معيناً يرفع فيه من شأنه وخصاله. وإلى جانب ذلك كانت القصيدة تكتب أيضاً للتعبير عن المواضيع الفكرية. إذ في سياق تطورها أصبحت المقدمة أحياناً تتحدث عن الطبيعة أو الحكمة. وفي أحيان نادرة كانت المقدمة تستخدم ليثبت فيها الشاعر فصاحته وتمكنه من اللغة في تعبيره عن نفسه. مضى المتنبي بالقصيدة خطوة أخرى وبز كل شعائرها بفضل ما وصفه الدارسون بأنه "جموح خياله وجرأته". وفي نتاجه الشعري جرب المتنبي ومزج بين التقاليد الأدبية في الشام ومصر والعراق والمعايير الأدبية العربية التقليدية الصارمة. وقصائده التي كتبها - مدائح لرعاته بأبيات مقتضبة وجذلة لا تزال ترددها الألسن حتى اليوم- كانت دائماً تلهب خيال العرب وخصوصاً زعمائهم. إذ دائماً ما تمتع المتنبي بقدر كبير من المعجبين بقصائده المفعمة بعباراته القوية وجرسها الرفيع. ومرة أخرى, فإن القارئ لأشعاره المترجمة من غير المحتمل أن يشعر بقدر كبير من المتعة الفنية مثلما يفعل قارئه العربي. كان المتنبي الذي ملأ الفخر بالنفس رأسه يتغنى في كثير من الأحيان بمآئره مثلما نجد في بيته الشهير: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم إن فهماً أعمق للقامة الشعرية العالية للمتنبي تتطلب معرفة المهارات التي يتوجب على الشاعر العربي أن يمتلكها. أولاً يجب أن تكون للشاعر ثقافة عالية وبالتالي أن يكون حسن التعليم. كما يتوجب عليه أن يتجاوز مجرد المعرفة العامة بالأدب التقليدي العربي والفارسي. أضف لذلك أن عليه تحقيق قدر طيب من المعرفة بمختلف الميادين العلمية وأهمها إطلاعه على الأساطير والقصص والمعتقدات العامة والتقاليد الشعبية. كما يتطلب الأمر منه المقدرة على بناء مزيج من هذه العناصر وغيرها وأن يشير إليها في قصائده. هذا المزيج كان فناً يمسك المتنبي بناصيته وأعطى به صوراً شعرية خيالية تعتمد في أغلب الأحيان على هوايات الحكام مثل الشطرنج والصيد والفروسية وغيرها. وشأن غيره من الشعراء في عصره, تلاعب المتنبي بالتوريات للتعبير عن رأيه بأسلوب ممتع. بل إنه مضى بهذا الفن شوطاً آخر حين كتب قصائد يمكن أن يكون لها معنى آخر حين تقرأ بشكل عكسي كلمة بكلمة. وكان المتنبي أيضاً قادراً على استخدام التاريخ الجُّملي, وهي أرقام تدل على تاريخ حدث معين تنتج عن احتساب القيم العددية لجملة أو لبيت شعري حين فك رموزه ويريد منها الشاعر أن يذكر تاريخ حدث معين أو تجربة يتحدث عنها في قصيدته. ويتضح هذا في هذه الأبيات من إحدى قصائد المتنبي: المجد عوفي إذا عوفيت والكرم وزال عنــك إلى أعدائــك الألــم وراجع الشمس نور كان فارقها كأنمــا فــقده في جسمهــا سقــم تفرَّد العرب في الدنيــا بمحتده وشارك العرب في إحسانه العجم كان فخر المتنبي بنفسه يصل في كثير من الأحيان حدود الغرور. وكان هذا الفخر هو الأساس الذي قام عليه جزء كبير من أشعاره. وبشكل ما كان المتنبي شخصية مثيرة للجدل في عصره. فقد حقق شعره نجاحاً كبيراً بغنى كناياته وقصائده البارعة سواء في المديح الماكر أو الهجاء المر. وكانت مواضيع قصائده تثير في الذهن دوماً الخصال التي يجلها العرب ولا تفقد قيمتها مع الزمن مثل الصدق في الوعد والاعتزاز بالنفس والصدق في المعشر والشجاعة والفروسية. النتاج الشعري للمتنبي اجتذب في حياته ولا يزال يجتذب حتى الآن قدراً كبيراً من الاهتمام. وشأن الكثير من الشخصيات الجدلية في التاريخ, فإن الاهتمام الذي حظيت به قصائده أعطته الشعبية وفتحت أمامه أبواب قصور الحكام في مراكز الإشعاع الثقافي العربي في القرن العاشر الميلادي. وحتى اليوم لا يزال المتنبي صعباً على الفهم نوعاً ما. فهناك هالة تشوبها بعض الضبابية تلف أعماله وشخصيته، كما ولا يعرف الكثير عن حياته. وربما يساهم هذا في لفت انتباه المزيد من القراء في يومنا لتراثه. ربما يكون قد كشف لنا المزيد عن حياته في قصائده. وربما يبقى هذا مضافاً إليه شخصيته وموهبته الشعرية, مصدراً للشعور بالإثارة والإلهام والجاذبية في نفوس قرائه. بقلم د . زهير غازي زاهى المتنبي خلاصة الثقافة العربية الإسلامية في النصف الأول من القرن الرابع للهجرة. هذه الفترة كانت فترة نضج حضاري في العصر العباسي ، وهي في الوقت نفسه كانت فترة تصدع سياسي وتوتر وصراع عاشها العالم العربي . فالخلافة في بغداد انحسرت هيبتها والسلطان الفعلي في أيدي الوزراء، وقادة الجيش ومعظمهم من الأعاجم، ثم ظهور الدويلات والإمارات المتصارعة في بلاد الشام ، ثم تعرض الحدود لغزوات الروم والصراع المستمر على الثغور الإسلامية ثم الحركات الدموية في داخل العراق كحركة القرامطة وهجماتهم على الكوفة. لقد كان لكل وزير ولكل أمير في الكيانات السياسية المتنافسة مجلس يجمع فيه الشعراء والعلماء يتخذ منهم وسيلة دعاية وتفاخر ثم هم وسائل صلة بين الحكام والمجتمع بما تثبته وتشيعه من مميزات هذا الأمير وذلك الحاكم ، فمن انتظم في هذا المجلس أو ذاك من الشعراء أو العلماء يعني اتفق وإياهم على إكبار هذا الأمير الذي يدير هذا المجلس وذاك الوزير الذي يشرف على ذاك. والشاعر الذي يختلف مع الوزير في بغداد مثلا يرتحل إلى غيره فإذا كان شاعرا معروفا استقبله المقصود الجديد، وأكبره لينافس به خصمه أو ليفخر بصوته. في هذا العالم المضطرب المتناقض الغارق في صراعه الاجتماعي والمذهبي كانت نشأة المتنبي وقد وعي بذكائه ألوان هذا الصراع وقد شارك فيه وهو صغير، وانغرست في نفسه مطامح البيئة فبدأ يأخذ عدته في أخذه بأسباب الثقافة والشغف في القراءة والحفظ. وقد رويت عن أشياء لها دلالاتها في هذه الطاقة المتفتحة التي سيكون لها شأن في مستقبل الأيام والتي ستكون عبقرية الشعر العربي. روي أنه تعلم في كتاب كان يتعلم فيه أولاد أشراف الكوفة دروس العلوية شعرا ولغة وإعرابا. وروي أنه اتصل في صغره بأبي الفضل بالكوفة، وكان من المتفلسفة، فهوسه وأضله. وروي أنه كان سريع الحفظ، وأنه حفظ كتابا نحو ثلاثين ورقة من نظرته الأولى إليه، وغير ذلك مما يروى عن حياة العظماء من مبالغات . . . ولم يستقر في موطنه الأول الكوفة وإنما خرج برحلته إلى الحياة خارج الكوفة وكأنه أراد أن يواجه الحياة بنفسه ليعمق تجربته فيها بل ليشارك في صراعاتها الاجتماعية التي قد تصل إلى أن يصطبغ لونها بما يسيل من الدماء كما اصطبغ شعره وهو صبي . . هذا الصوت الناشئ الذي كان مؤهلا بما يتملك من طاقات وقابليات ذهنية أدرك أن مواجهة الحياة في آفاق أوسع من آفاق الكوفة تزيد من تجاربه ومعارفه فخرج إلى بغداد يحاول أن يبدأ بصراع الزمن والحياة قبل أن يتصلب عوده، ثم خرج إلى بادية الشام يلقي القبائل والأمراء هناك، يتصل بهم ويمدحهم فتقاذفته دمشق وطرابلس واللاذقية وحمص. كان في هذه الفترة يبحث عن فردوسه المفقود، ويهيئ لقضية جادة في ذهنه تلح عليه، ولثورة حاول أن يجمع لها الأنصار، وأعلن عنها في شعره تلميحا وتصريحا حتى أشفق عليه بعض أصدقائه وحذره من مغبة أمره، حذره أبو عبد الله معاذ بن إسماعيل في اللاذقية، فلم يستمع له وإنما أجابه مصرا : أبـا عبـد الإلـه معاذ أني خفي عنك في الهيجا مقامي ذكرت جسيـم ما طلبي وأنا تخاطر فيـه بالمهج الجسام أمثلـي تـأخذ النكبات منـه ويجزع من ملاقاة الحمام ؟ ولو برز الزمان إلى شخصا لخضب شعر مفرقه حسامي إلا أنه لم يستطع أن ينفذ ما طمح إليه. وانتهى به الأمر إلى السجن. سجنه لؤلؤ والي الأخشيديين على حمص بعد أن أحس منه بالخطر على ولايته، وكان ذلك ما بين سنتي 323 هـ ، 324 هـ . البحث عن النموذج : خرج أبو الطيب من السجن منهك القوى . . كان السجن علامة واضحة في حياته، وكان جدارا سميكا اصطدمت به آماله وطموحاته، وأحس كل الإحساس بأنه لم يستطع وحده أن يحقق ما يطمح إليه من تحطيم ما يحيط به من نظم، وما يراه من فساد المجتمع. فأخذ في هذه المرحلة يبحث عن نموذج الفارس القوى الذي يتخذ منه مساعدا على تحقيق طموحاته، وعلى بناء فردوسه. وعاد مرة أخرى يعيش حياة التشرد والقلق، وقد ذكر كل ذلك بشعره. فتنقل من حلب إلى إنطاكية إلى طبرية حيث التقى ببدر بن عما سنة 328 هـ، فنعم عند بدر حقبة، وكان راضيا مستبشرا بما لقيه عنده، إن الراحة بعد التعب، والاستقرار بعد التشرد، إلا أنه أحس بالملل في مقامه، وشعر بأنه لم يلتق بالفارس الذي كان يبحث عنه والذي يشاركه في ملاحمه، وتحقيق آماله. فعادت إليه ضجراته التي كانت تعتاده، وقلقه الذي لم يبتعد عنه، وأنف حياة الهدوء إذ وجد فيها ما يستذل كبرياءه. فهذا الأمير يحاول أن يتخذ منه شاعرا متكسبا كسائر الشعراء، وهو لا يريد لنفسه أن يكون شاعر أمير، وإنما يريد أن يكون شاعرا فارسا لا يقل عن الأمير منزلة. فأبو الطيب لم يفقده السجن كل شيء لأنه بعد خروجه من استعاد إرادته وكبرياءه إلا أن السجن كان سببا لتعميق تجربته في الحياة، وتنبيهه إلى أنه ينبغي أن يقف على أرض صلبة لتحقيق ما يريده من طموح. لذا فهو أخذ أفقا جديدا في كفاحه. أخذ يبحث عن نموذج الفارس القوي الذي يشترك معه لتنفيذ ما يرسمه في ذهنه. أما بدر فلم يكن هو ذاك، ثم ما كان يدور بين حاشية بدر من الكيد لأبي الطيب، ومحاولة الإبعاد بينهما مما جعل أبا الطيب يتعرض لمحن من الأمير أو من الحاشية تريد تقييده بإرادة الأمير، كان يرى ذلك استهانة وإذلالا عبر عنه بنفس جريحة ثائرة بعد فراقه لبدر متصلا بصديق له هو أبو الحسن علي ابن أحمد الخراساني في قوله : لا افتخار إلا لمن لا يضام مدرك أو محارب لا ينام وعاد المتنبي بعد فراقه لبدر إلى حياة التشرد والقلق ثانية، وعبر عن ذلك أصدق تعبير في رائيته التي هجا بها ابن كروس الأعور أحد الكائدين له عند بدر. وظل باحثا عن أرضه وفارسه غير مستقر عند أمير ولا في مدينة حتى حط رحاله في إنطاكية حيث أبو العشائر ابن عم سيف الدولة سنة 336 هـ وعن طريقه اتصل بسيف الدولة سنة 337 هـ وانتقل معه إلى حلب. في مجلس هذا الأمير وجد أفقه وسمع صوته، وأحس أبو الطيب بأنه عثر على نموذج الفروسية الذي كان يبحث عنه، وسيكون مساعده على تحقيق ما كان يطمح إليه. فاندفع الشاعر مع سيف الدولة يشاركه في انتصاراته. ففي هذه الانتصارات أروع بملاحمه الشعرية. استطاع أن يرسم هذه الحقبة من الزمن وما كان يدور فيها من حرب أو سلم. فيها تاريخ واجتماع وفن. فانشغل انشغالا عن كل ما يدور حوله من حسد وكيد، ولم ينظر إلا إلى صديقه وشريكه سيف الدولة. فلا حجاب ولا واسطة بينهما، وكان سيف الدولة يشعر بهذا الاندفاع المخلص من الشاعر ويحتمل منه ما لا يحتمل من غيره من الشعراء. وكان هذا كبيرا على حاشية الأمير . وكان أبو الطيب يزداد اندفاعا وكبرياء واحتقارا لكل ما لا يوافق هذا الاندفاع وهذه الكبرياء . . في حضرة سيف الدولة استطاع أن يلتقط أنفاسه، وظن أنه وصل إلى شاطئه الأخضر، وعاش مكرما مميزا عن غيره من الشعراء. وهو لا يرى إلى أنه نال بعض حقه، ومن حوله يظن أنه حصل على أكثر من حقه. وظل يحس بالظمأ إلى الحياة إلى المجد الذي لا يستطيع هو نفسه أن يتصور حدوده إلى أنه مطمئن إلى إمارة عربية يعيش في ظلها وإلى أمير عربي يشاركه طموحه وإحساسه. وسيف الدولة يحس بطموحه العظيم، وقد ألف هذا الطموح وهذا الكبرياء منذ أن طلب منه أن يلقي شعره قاعدا وكان الشعراء يلقون أشعارهم واقفين بين يدي الأمير، واحتمل أيضا هذا التمجيد لنفسه ووضعها أحيانا بصف الممدوح إن لم يرفعها عليه . . . ولربما احتمل على مضض تصرفاته العفوية إذ لم يكن يحس مداراة مجالس الملوك والأمراء، فكانت طبيعته على سجيتها في كثير من الأحيان. وهذا ملكان يغري حساده به فيستغلونه ليوغروا صدر سيف الدولة عليه حتى أصابوا بعض النجاح، وأحس الشاعر بأن صديقه بدأ يتغير عليه، وكانت الهمسات تنقل إليه عن سيف الدولة بأنه غير راض، وعنه إلى سيف الدولة بأشياء لا ترضي الأمير وبدأت المسافة تتسع بين الشاعر وصديقه الأمير. ولربما كان هذاالاتساع مصطنعا إلا أنه اتخذ صورة في ذهن كل منهما، وأحس أبو الطيب بأن السقف الذي أظله أخذ يتصدع، اعتاده قلقه واعتادته ضجراته وظهرت منه مواقف حادة مع حاشية الأمير، وأخذت الشكوى تصل إلى سيف الدولة منه حتى بدأ يشعر بأن فردوسه الذي لاح له بريقه عند سيف الدولة لم يحقق السعادة التي نشدها. وكان موقفه مع ابن خالوية بحضور سيف الدولة واعتداء ابن خالوية عليه ولم يثأر له الأمير أصابته خيبة الأمل، وأحس بجرح لكرامته لم يستطع أن يحتمل فعزم على مغادرته ولم يستطع أن يجرح كبرياءه بتراجعه، وإنما أراد أن يمضي بعزمه. فكانت مواقف العتاب والعتاب الصريح، ووصل العتاب إلى الفراق. وكان آخر ما أنشده إياه ميميته في سنة 345 هـ ومنها: لا تطلبن كريمــا بعد رؤيته إن الكرام بأسخــاهم يدا ختموا ولا تبــال بشعر بعد شاعره قد أفسد القول حتى أحمد الصمم البحث عن الأمل : فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية سيف الدولة. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلبا، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، ولذا بقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة من كافور حتى كادت الصلة تعود بينهما، فارق أبو الطيب حلبا إلى مصر . . وفي قلبه غضب كثير، وكأني به أطال التفكير في محاولة الرجوع إلى حلب وكأني به يضع خطة لفراقها ثم الرجوع إليها ولكن لا يرجع إليها شاعرا فقط إنما يزورها ويزور أميرها عاملا حاكما لولاية يضاهي بها سيف الدولة، ويعقد مجلسا يقابل سيف الدولة . . من هنا كانت فكرة الولاية أملا في رأسه ظل يقوي وأظنه هو أقوى الدوافع . . دفع به للتوجه إلى مصر حيث كافور الذي يمتد بعض نفوذه إلى ولايات بلاد الشام . . وفي مصر واجه بيئة جديدة، ومجتمعا آخر، وظروفا اضطرته إلى أن يتنازل في أول الأمر عما لم يتنازل عنه، وهو عند سيف الدولة . . ثم هو عند ملك لا يحبه، ولم يجد فيه البديل الأفضل من سيف الدولة إلا أنه قصده آملا، ووطن نفسه على مدحه راضيا لما كان يربطه في مدحه من أمل الولاية، وظل صابرا محتملا كل ذلك. وأخذ يخطط إلى أمله الذي دفعه للمجيء إلى هنا، ويهدأ كلما لاح بريق السعادة في الحصول على أمله، وهو حين يراوده نقيض لما يراه من دهاء هذا الممدوح الجديد ومكره تنعصر نفسه، ويحس بالحسرة على فراقه صديقه القديم. وفي هذه البيئة الجديدة أخذ الشعور بالغربة يقوى في نفسه بل أخذ يشعر بغربتين غربته عن الأهل والأحبة وعما كان يساوره من الحنين إلى الأمير العربي سيف الدولة، ويزداد ألمه حين يرى نفسه بين يدي أسود غير عربي إلا أنه حين يتذكر جرح كبريائه يعقد لسانه ويسكت . . وغربته الروحية عمن حوله والتي كان يحس بها في داخله إحساسا يشعره بالتمزق في كثير من الأحيان . . وظل على هذا الحال لا تسكته الجائزة، ولا يرضيه العطاء، وظل يدأب لتحقيق ما في ذهنه ويتصور أنه لو حصل عليها لحقق طموحه في مجلس كمجلس سيف الدولة تجتمع فيه الشعراء لمدحه فيستمع لمديحه وإكباره على لسان الشعراء بدلا من أن يؤكد كبرياءه هو على لسانه، ولربما كان يريد إطفاء غروره بهذا إلا أن سلوكه غير المداري وعفويته التي رأيناها بابا سهلا لدخول الحساد والكائدين بينه وبين الحاكم الممدوح، ثم حدته وسرعة غضبه وعدم السيطرة على لسانه. كان كل ذلك يوقعه في مواقف تؤول عليه بصور مختلفة وفق تصورات حساده ومنافسيه . . وأكاد أعتقد أنه كان مستعدا للتنازل عن كل جوائزه وهباته لمن كان يتصور أنه كان يريد أن يتربع على عرش الشعر من أجل جائزة كافور وعطائه، ثم يصوره بصورة تشوه إحساسه وتزور مشاعره . . وذلك هو الذي يغيظه ويغضبه ويدفعه إلى التهور أحيانا وإلى المواقف الحادة . . كل ذلك يأخذ طابعا في ذهن الحاكم مغايرا لما في ذهن الشاعر . . هكذا بدأت المسافة تتسع بينه وبين كافور . . وكلما اتسعت المسافة كثر في مجالها الحاسدون والواشون، وكلما أحس الشاعر، ولو وهما، بأزورار كافور عنه تيقظت لديه آفاق جديدة لغربته، وثارت نفسه وأحس بالمرارة إحساسا حادا . . لقد كان هو يحس بالحق، وبأنه لم يطلب فوق حقه، ولم يتصرف بما هو خطأ لأنه لم يصدر منه تجاوز على حق أحد إلا أنه هذا التصور البريء في ذهن الشاعر بعيد عن واقع الصورة التي في ذهن حاشية كافور، وما يصل إلى كافور من أقوال عن الشاعر وعادة المتملقين من الوجهاء يتوصلون إلى الحاكم بواسطة حاشيته وإغراء بعض أفرادها بأن يكونوا جسورا بينهم وبين سيدهم . . هذه الجسور قد تقطع عند الحاجة بين الحاكم وبين خصومهم . . . أما أبو الطيب فلم يكن يحسن هذا اللون من التظاهر ولم يكن يفكر بهذا اللون من التصور، وإنما كان صريحا بكل شيء في رضاه وسخطه صريحا بما يرغب دون احتيال ولا محاورة، فما دام يشعر بالحق طالب به دون تأجيل. هذه الصراحة كثيرا ما أوقعته في مواقف حرجة، عند سيف الدولة، وهنا أيضا عند كافور، لذا صارت للمتنبي صورة الغول في نفس كافور، وبأنه المخيف الذي سينزو على ملكه إذا أعطاه ما يمكنه من ذلك، وهكذا ظل الشاعر يرغب، ويلح في رغبته، وظل كافور يداوره ويحاوره، وهو لون من الصراع الدرامي بين حاكم يحسن الاحتيال والمداورة وشاعر صريح لا يحسن من ذلك شيئا حتى وصل الشاعر إلى حالة لم يستطع بعدها أن يبقى صامتا، وشعر كافور برغبته في مغادرته فظن أن تشديد الرقابة عليه وإغلاق الحدود دونه سيخيفه ويمنعه من عزمه، ويخضعه كما يفعل مع غيره من الشعراء بالترهيب حينا والذهب حينا آخر . . إلا أن أبا الطيب لم يعقه ذلك كله عن تنفيذ ما عزم عليه بعد أن أحس باليأس من كافور، ولذعه الندم على ما فعل بنفسه في قصده إياه . . وعاودته ضجراته التي أحس بها وهو عند أكثر أصدقائه إخلاصا وحبا وظل يخطط إلى الهرب، ويصر على تحدي كافور ولو بركوب المخاطر حتى وجد فرصته في عيد الأضحى، وخرج من مصر، وهجا كافورا بأهاجيه المرة الساخرة . الاضطراب واليأس : إن تحدي أبي الطيب لسلطة كافور في هروبه وركوبه كل المخاطر، ثم هذه الطاقة المتفجرة من السخط والغضب في هجائه، كل ذلك يدل على مبلغ اليأس والندم في نفسه، ويبدو لي أنه كان حائرا حين فارق سيف الدولة، وحاول أن يمنع نفسه من التوجه إلى كافور إلا أنه رجح أمر توجهه إلى مصر بعد إطالة فكر . . . ويبدو أنه كان قد فكر بهذه النتيجة اليائسة من ملك مصر لذا نراه وكأنه أراد أن يتقدم من نفسه على ارتكابه خطيئة التوجه إليه واحتمالها مدحه، والتقيد بأوامره حينا. فهو حاول بأي وجه أن يشعر بالانتصار على هذه السلطة، نجده تحداه في هروبه، ثم نقرأ هذا الفخر بالشجاعة والفروسية في اقتحام المخاطر في طريقه إلى الكوفة في مقصورته : ضربت بها التيه ضرب القمار إمــا لهـذا وإمــا لـذا إذا فزعت قدمتـها الجيــاد وبيض السيوف وسمر القنا فلمـا انحنـا ركزنـا الرماح فـوق مكــارمننا والعمل وبتنــا نقبـــل أسيافنــا ونمسحها من دماء العــدى لتـــعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتــى عاد إلى الكوفة وهو أشد الحاجة إلى الاستقرار إلا أنه لم يستطع الإقامة فيها طويلا، فذهب إلى بغداد حيث مجلس المهلبي الذي يجتمع فيه جماعة من الشعراء والأدباء، وكان المهلبي يطمع بمدح أبي الطيب فلم يحصل إلا على زيارة الشاعر لمجلسه. أزور أبو الطيب من جو الخلاعة والمجون الذي يحيط بالمهلبي ويظهر لي أنه كان منذ نزوله الكوفة كان يفكر في صديقه الحمداني وبأسباب الصلة به. فالشاعر لم يرد أن يتورط بمدح المهلبي والبويهيين في بغداد لكي يحافظ على العلاقة بينه وبين سيف الدولة لما كان بين سلطة بغداد وحلب من عداء. ثم أن أبا الطيب في هذه المرحلة التي ينال فيها من الشهرة والمجد لم يجد ما يحققه من مدحه للمهلبي، بل كان يراه أقل منه شأنا وأدبا . . وظل صامتا حتى عن رد الشعراء الذين حرضهم المهلبي عليه فهجوه أقذع الهجاء، فلم يجبهم، وكذلك حرض الحاتمي عليه فكانت تلك المناظرة الحاقدة التي سجلها الحاتمي في رسالته الموضحة. فكان أبو الطيب وقورا حينا وحادا أحيانا، ويغضي عن كل ذلك أوانا، وكان مكتفيا في لقاء محبي شعره وطالبي أدبه في دار صديقه علي بن حمزة البصري الذي كان قد نزل فيها. عاد إلى الكوفة بعد أن أقام في بغداد سبعة أشهر، ويظهر أنه أراد أن يبتعد عن هذا الجو الصاخب فيها ليستقر في مكان يفكر فيه بعقد أسباب الصلة بأمير حلب. وفعلا وصلت إليه هداياه وأرسل إليه شعرا ولم يطق الإقامة في الكوفة لما كان فيها من الحوادث الدموية بسبب هجوم القرامطة عليها، واشترك المتنبي في الدفاع عنها. وعاودته الرغبة إلى الرحيل إذ كان يجد فيه متنفسا عن قلقه ولما جاءته رغبة ابن العميد من أرجان في زيارته رحل إليه ومنه إلى عضد الدولة في شيراز. وكأن رحلته هذه كانت لقتل الفراغ الذي أحس به بعد طول معاناة ولامتصاص التمزق الذي كان يعانيه، وربما كان في نفسه غرض آخر هو تقوية صلته بعضد الدولة وذوي الجاه كابن العميد ليقوى مركزه في بغداد بل ليكون أقوى من صاحب الوزارة فيها الذي حرض من لديه من الشعراء على هجائه. وكان عضد الدولة يقيم بشيراز ويتطلع لخلافة أبيه للحكم في بغداد، وبحاجة لشاعر كبير يقدمه للناس ويعرفهم بخصاله. وفي طريق عودته إلى بغداد كان مقتله قريبا من دير العاقول 354 هـ وكان مع المتنبي جماعة من أصحابه وابنه محسد وغلامه مفلح اللذان قتلا معه على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي وجماعته. الخاتمة : وأخيراً اسأل الله أن يوفقني قي تقديم هذا المشروع بالشكل اللائق .. و صلى الله وسلم على سيدنا محمد و على آله وأصحابه أجمعين .. و سبحانه اللهم و بحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك و أتوب إليك .. |
الساعة الآن 06:28 PM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.5.2 TranZ By
Almuhajir