عرفته قبل ان ألقاه، وقرأت عنه في الوثائق البريطانية ما شدني اليه، وحين التقيته في بيروت كنت ازور مجموعتين من ضحايا الاحتلال والقمع السلطوي: اكثر من 400 فلسطيني أبعدتهم "اسرائيل" من فلسطين الى تلك الروابي المقفرة في الجنوب اللبناني، وعشرات البحرانيين الذين أجبرهم الاستبداد الخليفي على العيش في سوريا. جلسنا معا بحضور المرحوم احمد الذوادي، لنتداول اوضاع بلادنا المعذبة، ولنتدبر ما يمكن عمله لانقاذ هذا الشعب من النظام الفاشي الجاثم على صدور شعبنا المظلوم. كان يحثني على الاسراع باصدار كتاب عن تاريخ حركة المعارضة كنت اجمع مادته من الوثائق البريطانية. يومها لم اطلع بعد على ما ذكرته تلك الوثائق عن أبي أمل. ولكن بعد سبع سنوات صدرت وثائق العام 1999، فشدني منها وثيقة تضمنت رسالة المعتمد السياسي البريطاني في البحرين آنذاك، أنثوني بارسونز، حول تقييم اداء ايان هندرسون. عددت تلك الرسالة "انجازات" الضابط الاستعماري منذ ان استقدم لاعادة بناء "القسم الخاص" بوزارة الداخلية، ومنها "اعتقال شاب في العشرينات من العمر قادم من ابوظبي، ومعه بندقية" حسب ادعاء هندرسون الذي كان يستطيع ان يحصل، باساليب تعذيبه التي اكتسبها منذ ايام قمعه ثورة الماو ماو في كينيا، على ما يريد من "اعترافات". كان الشاب المشار اليه وفق تلك الوثيقة هو عبد الرحمن النعيمي الذي كان في ذروة شبابه وحماسه للنضال ضد الاستعمار والاستبداد.
من دمشق كان المرحوم يمارس نشاطه المحموم من اجل حرية البحرين، مع ثلة من رفاقه، فكان قلمه سيفا مصلتا ضد القمع المتواصل من رجال بواسل لا ينحنون ولا يتزعزعون، برغم ضغوط العيش المادية والنفسية. التقيته في لندن في مؤتمر للمعارضة إبان الانتفاضة المباركة، وكان الرجل كعادته، فوق الاعتبارات المذهبية التي طالما سقط في وحلها غيره. لقد كان النعيمي واحدا من ذلك النوع الذي ساهم في اسقاط المشروع الطائفي لدى الطغمة الخليفية المقيتة، ومن بين رموزه عبد الرحمن الباكر وعبد العزيز الشملان في الخمسينات وابراهيم فخرو وابراهيم موسى وعبد علي العليوات وعبد الله ابوديب ومحسن التاجر والسيد علي السيد ابراهيم (رحمهم الله جميعا). اولئك كانوا عمالقة في تاريخ النضال، فكانوا يتمردون على دعوات التشطير المجتمعي، ويلملمون الشمل ويسقطون الاساليب الخليفية الهادفة لتمزيق ابناء البحرين على اسس الانتماء ا لمذهبي. وهذا ديدن العظماء الذين يناضلون من اجل الحرية ويتشبعون بروحها فينظرون بعمق وحكمة لخطط المحتلين والديكتاتوريين. ذلك النوع من الرجال لا ينقرض برغم الاموال النفطية ا لهائلة التي تخصص لمحاربته. الوحدة الوطنية في مسيرة أبي أمل كانت فوق كل شيء. لقد عاش ورأى، خصوصا بعد عودته من المنفى في 2001 كيف تساقط رفاق الامس امام اغراءات المال والمنصب، وسخروا انفسهم لخدمة مشاريع الاستبداد وفي مقدمتها تمزيق الوحدة الوطنية على اسس المذهبية والطائفية.
كان اللقاء الاول بعد العودة الى الوطن في مكتبه بالمنامة. تأخر قليلا عن الموعد وعندما جاء قال: انني في حيرة كبيرة. لماذا؟ لقد جئت من لقاء مع حسن فخرو الذي عرض علينا 25 الف دينار مساعدة من الامير، وأخشى ان يزعل اذا رفضناها، فما رأيكم؟ كان عبد النبي العكري ثالثنا فقال: يجب ان تعرف يا أبل أمل ان ذلك المبلغ "رشوة" واضحة وعلينا ان نقرر ما اذا كنا نقبل الرشوة. فكان القرار الجماعي رفض تلك "المكرمة الاميرية" لانها لا تستقيم مع روح النضال. وفي خضم الحوادث اللاحقة كان للمرحوم حضوره الفاعل لترشيد الساحة في زمن كان الجميع محاصرا بألاعيب الطغمة الحاكمة وأساليبها في الغش والخداع والتضليل.
وقف الرجل شاهقا بقامته حتى اليوم الذي ألم به المرض. وقد اجتهد في ترشيح نفسه في الانتخابات الصورية في 2006، وكانت، في نظري، كبوة الفارس، لان مثله لا يسمح له بالحضور السياسي في المحافل الرسمية، وكان اكبر من ان يلوث نفسه بعضوية مجلس كان مصمما ليكون بوقا للاستبداد والاستعباد والاستحمار. فشاء الله له ان لا يدخل مجلس أريد له ان يكون أداة لتقنين الديكتاتورية. واصل أبو أمل عطاءه ومواقفه في فترة كانت من اصعب الفترات على شعبنا كان الديكتاتور يخطط فيها للقضاء على ما تبقى من حركة اسلامية ووطنية مقاومة للاستبداد. أشعر اليوم ان عبد الرحمن رحل عن الدنيا وفي قلبه غصة مما رآه في سنواته الاخيرة من انقلاب القيم واختلال المعايير وانحراف البوصلة لدى الكثيرين. ولطالما تمنيت ان يمتد به العمر لينهض بدور المقاوم للمشروع الطائفي والمذهبي الذي تبناه النظام الديكتاتوري وصفق له الناعقون من اليمين واليسار. شاء الله له ان يرحل عن الدنيا وتاريخه النضالي الناصع محتفظ بنقائه، وان يترجل عن فرص النضال وقد ترك وراءه سجلا حافلا بالنضال والشرف والوطنية والوعي وحب الوطن وروح التسامح. فرحمه الله وغفر له ذنوبه.
09-02-2011, 02:40 PM
العرض العادي
المواضيع المتشابهه 
