إنضمامك إلي منتديات استراحات زايد يحقق لك معرفة كل ماهو جديد في عالم الانترنت ...

انضم الينا
استراحات زايد الصفحة الرئيسية


إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-04-2010, 05:30 PM
عضو ماسي
بيانات محروم.كوم
 رقم العضوية : 503
 تاريخ التسجيل : Dec 2007
الجنس : female
علم الدوله :
 المشاركات : 2,100,610
عدد الـنقاط :3341
 تقييم المستوى : 2139

موت العم زكريا

" حيث يكون الهو ، لا بد أن أصير "
سيجموند فرويد

مروان الطيب بشيري

يجلس على دكة الخشب المغلفة بجلد الجمل ويقلب جريدة "الشعب" في الأماسي ، أركض نحوه وأندس بينه وبين الجريدة فيقعدني على إحدى ركبتيه ويستمر في تصفح الأوراق، في طفولتي الأولى كان عمي زكريا بالنسبة إلي - وإلى الآن- يجسد تماهيا مثاليا يتوق إليه أغلب الأقران من بني عمومتي ، حتى أن إرضائه والفوز بإعجابه أهم عندنا من اغتنام رضا آبائنا كونه أكبر إخوته وأورثهم لزعامة جدي الروحية، ولقد كان رجلا عقيما، ضل أبي وأعمامي الآخرين يجتهدون في منحه لتلك المكانة الجليلة، مما جعلني أتفانى في الإتحاد بمتعة الإشباع الصوفي التي يمكن تصورها معه، في محاولة جادة للاستئثار باهتمامه وضمان استمرار الحظوة التي يخصني بها ، ومما زاد من توطيد عرى التعلق بعمي زكريا، سنوات المعتقل التي حرمتنا من قربه، وتمثلت ذكرى رحيله المفاجئ إلى اليوم كأثر ذكروي مؤلم يقطع أوصال الذكريات، واستمرت على إيلامها تتحفز كلما ثارت في ذاكرتي بتشابك العواطف وانفكاكها بين حضوره في وعيي، وغيابه في صحراء المعتقل القاسية ، في تلك الفترة الأليمة كان جبل الشوق إليه راسخ في أرض الغياب ، طالما شعرت به ممتدا في طبقات الانتظار الصخرية ، شامخ أعلاه في وجه اليأس وريحه العاتية التي تنحت منه تمثالا عاريا في الخلاء ، وكلما عصرتني الحاجة نحو عمي الغائب أنتحب مثقلا بأحمال مقنطرة من الحب والانتظار تستنفر الدمع إلى عيوني، ثم حدث أن عاد عمي إلينا بنفس الفجأة التي غاب بها مستجلبا كل جميل معه، فأشرقت نفسي بالبشر والسعادة مرة أخرى وانحسرت موجة الأحزان عن أهلي ، أزوره مع أبي أو وحدي، قاصدا أو معرجا ، بسبب أو بدونه ، للذهاب معه إلى المسجد سوية أو لحضور حلقته في مسجد عبد الرحمان بن عوف بين المغرب والعشاء ، للتبضع معه ،أو لمجرد المجالسة ، وكثيرا ما أسأل أبي عن أسباب غيابه في "رقان" فينهرني ويضع سبابته تحت إحدى عينه قائلا " حل عينك تعاود هذا الكلام قدام عمك" ، وأحاذر أن أقع فريسة غضبه ولكن غضب أبي علي أهون من غضب عمي زكريا ، شكا إليه ناظر المدرسة مرة ابن عمي السعيد فتحرى وتثبت مما نقل الناظر إليه وتأكد منه ، أرسل في طلب الولد وانفرد به في غرفة " الخزين" وحبسه يوما وليلة بعد أن حك إسته و لسانه بالفلفل ، علمت فيما بعد أن السعيد تغيب عن المدرسة دون عذر أو إذن ومن يومها لم نسمع أحدا تغيب أو زاغ عن المدرسة من ذوينا خوفا ورهبا من عقاب عمي، نعتاد اللعب معه في العطل في غابة " سن اللباء" ويسر أن يلعب كرة القدم ضدي فنتنافس بشدة ونمضي طريق العودة في التعليق والممازحة المهذبة، فيبرر خسارته أمامي بكبره وخبرتي التي اكتسبتها من حصة التربية البدنية المدرسية فأتذكر أستاذها .
عندما مرة أمسك بالجمجمة وتفحصها بتركيز واهتمام ثم وضعها جانبا،
وبعد أن مسح على لحيته الكثة قال:
- وهنا هيكل الرأس والعنق، يضم عظام القحف والحنك والفقرات العنقية ، أما في المفاصل فنعثر على المفصل الفكي الصدغي ، والمفصل الفقري القفوي ....
كان مولع بتزويدنا بأهم ما يكوَن الجسم البشري حتى استحالت حصة التربية البدنية التي يشرف عليها إلى مادة التشريح ، ولشد ما بلغ بنا العجب والانذهال مبلغهما أمام المجسمات الافتراضية لأعضاء الإنسان وتسمياتها المعقدة مثل العظام الفورميوسية أو العضلة الوقبية العينية، وحضرته يشير نحوها بمسطرة رقيقة ، ويشاركنا الدهشة بنظرات عميقة نحونا بخشوع وتدبر ، وكان يصر فوق ولعه ذاك على وجوب علمنا بأجزاء الأجسام التي نمرح بها، ونمشي ونعدو ونقفز كالغزلان، ونتقاذف بيننا الكرة بالأيدي وبالأرجل أو بالجباه التي خلقنا الله مزودين بها، فيأمرنا بين الفينة والفينة أن نحمد الله على نعمة الجسم السليم بصوت جماعي تردد صداه حجرة الدرس، أما أغلبنا فكان يستثقل تفسيره العلمي ويتبرم من شروحاته العسيرة حول إبداع الخالق في حاسة الشم مثلا ، أو في النهاية الدقيقة لعظم العصعص، أو قدرة الله في تركيب الشريان السباتي الظاهر ، وما إن يأذن لنا بدخول الملعب الرياضي بعد جولة في ملكوت الجسم الآدمي حتى نتسابق عجلين إلى الكرة كمن تحرر من خطبة سياسية مطولة ، وعندما يدق جرس نهاية الحصة نتطوبر في طابور للذكور وآخر للإناث اللواتي لا ينظر إليهن البتة ، ويسمعنا موعظة أسبوعية لدقيقتين تتضمن نصوصا قرآنية وأخرى حديثية ، وبعض الأقوال المأثورة والأشعار حول الأخلاق وتربية النفس ونصائح رياضية ثم ننصرف إلى بيوتنا بنفس التوق إلى الكرة الذي جئنا به بعد أن تطير شروح علم التشريح من رؤوسنا سدا . وذات أحد ربيعي قبل دقائق من بداية الحصة الرياضية في المدرسة كان فريق حينا على موعد مع مباراة تأهيلية في إطار بطولة رابطة مابين الأحياء ، قررت فجأة عدم الحضور إلى المدرسة رغم متابعتي الدائمة وانتظامي المستمر في الدراسة إلى درجة أن مواظبتي كانت مضرب فخر عمي زكريا الذي يشيد بمستواي ويثني عليه أمام أولاد إخوته كلهم ، ولكن تلك المصطلحات التشريحية المدببة كانت تنفرني من حضور حصة الرياضة ففضلت الذهاب إلى ملعب البلدية للعب ضمن فريق الحي ورميت بمحفظتي ولعبت الكرة ونفسي تقول ليكن ما يكون ، كانت مقابلة ساخنة مارست بها شغفي وولعي بالمناورة والتسديد وفنيات المراوغة ، وكلما قذفت الكرة برجلي تعاودني شروح الأستاذ عن الحركة المقلعية للكاحل والعضلة النعلية ، وفي كل تسديدة رأسية أتذكر شكل اليوافيخ و المحفظة العظمية التي تضم الدماغ ، كان اللعب سجالا بلغ حد الخشونة حتى كانت صافرة الحكم تعلن نهاية المقابلة بفوز الفريق الخصم ولكن الإحساس بالنصر ضل ينبعث في داخلي دون سبب، ثم عدت إلى البيت أفكر في كذبة ألفقها إلى أمي إذا هي سألتني كعادتها عن نهاري في المدرسة ، دخلت أستحم مستسلما بانتعاش لدفق المياه الغزيرة تنسال على جسدي ، وفي غمرة الاستمتاع برغوة الصابون والدلك والغسل والدعكات العاجنة ، رحت أستذكر دروس التربية البدنية في ابتسام مبعثه استشعار العواقب التي تنتظرني من ورائي تغيبي غير المبرر، وكلما غسلت عضوا سميته بمصطلحه العلمي حيث هنا الحفرتان الأنفيتان وجوف الفم ، وهنا كرة العين حيث الصلبة والقرنية والمشيمة والقزحية ، وهنا الأذن حيث عظام المطرقة والسندان والركابة وصندوق الطبل ، ثم دلكت رأسي وعضلات العنق من الأخمعية واللامية إلى الصفاق الرقبي وطال مكوثي في الحمام حتى انتابني الحنق على تغيبي وندمت على ما فاتني اليوم من معلومات مفيدة، كما غشيني اليأس والخوف من اكتشاف عمي زكريا للأمر كله ، بقي الخوف يرين على مخيلتي بعد خروجي من الحمام فاضطجعت على سريري غير ملتفت لنداء الجوع يصطرخ في تجاويف أمعائي الخاوية، وانصب الهم كله في جريمة الغياب وحرارة الفلفل الأحمر على الإست واللسان ، في المساء على كره حملتني قدماي إلى المدرسة بعد غداء عجل لم أكن لالتهمه لولا إسرار والدتي ، استدعاني الناظر إلى مكتبه لتبرير غياب الفترة الصباحية ولكن المصيبة أن أستاذ التربية البدنية كان بمعيته فسألني عن أسباب غيابي ، خفق قلبي بشدة وشعرت بالضباب يمر في قرنيتي، حاولت ازدراد ريقي ولكن كان حلقي ناشفا، ثم لا أدري كيف قلت أني كنت في جنازة ، تغير وجه الأستاذ سائلا جنازة من ؟ ، لا أدري مرة أخرى لما قلت "جنازة عمي " صعق الرجلان وقالا بصوت واحد "من ؟؟" ، اعترتني برودة وتفصد بالعرق جبيني قائلا " مات عمي زكريا"، بهت الرجلان ، وجعني رأسي وأنا أرى الدمع في وجه أستاذ التربية البدنية والناظر يردد "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ثم حدثت جلبة داخل المكتب وجاء المساعدون التربويون واكتظ بهم المكتب والرواق ، لم أكن أعرف أن عمي زكريا على هذا القدر من الشهرة فانسليت وسط الضوضاء والفضول وهرولت خارج المدرسة تاركا أثر كذبتي مثل قنبلة غاز مسيل للدموع ، وضربت أخماسا بأسداس على خبلي.. كنت كلما كذبت كذبة إلا وأشعر بأن ما بين شفتاي سيولد حلم يقظ ، أما اليوم فشعرت أن جزء ما في جسدي أطلق كذبته ولم أكن أنا قطعا ، ومشيت نحو دار عمي زكريا هربا إليه مما فعلت .. وبدأت أتساءل عن ماهية الكذب الذي يلقي بنا إلى التهلكة، وهل حدثنا أستاذ التربية البدنية يوما عن المكان المفضل للكذب في الجسد لما ذكر أن الإيمان في القلب ؟ أم تراه عرفهم به لما تغيبت، وأجاد وأفاد كعادته في التعريف والإخبار؟ ، أويمكن أن يكون ملما بهذه اللذة المنبوذة الهائمة في تفاصيل ذات غير حسية ؟ وهل لها من قرار؟ ..أثناء الطريق الطويل بين المدرسة ودار عمي حاولت رصد العارض الذي يدفعنا بلذة نحو العبور إلى مسار الطاقة الكاذبة ، هل الكذب عصاب شيطاني يمكث بين الصلب والترائب ؟.. هوالنزوة المقعية خلف الرضاب؟ أم التداعي المصلوب في الشفتين ؟ ، أم أثر عائم في الأنا؟ . وبقيت أبحث عن أفق أوسع مما تراه عيناي، عن بينة تدل على تحديد جينات الكذب فاستأصل شأفته وأخضد شوكته ، هل يهتز وينثني داخل التفاف عضلة ما ؟ أو ينبعث في حذر من بؤبؤ العينين بعد كمونه في منطقة مزيج من بقايا روحية؟ ، وفي غمرة البحث والتساؤل عن جدوى جسدنة الكذب كانت رغبة البحث عن بيت في الجسد لحضرته تتفاقم وتتشابك مع أسئلة مشابهة لموضوعات قريبة مشتركة في الغموض كالحب والكره والنسيان ، هل هناك مكان آخر للحب خارج القلب؟.. ولما نحب ونكره بالقلب ذاته ؟ أين يسكن النسيان من البدن ؟ أفي القلب ؟ الصدر؟ الأمعاء الغليظة؟ وقالوا في الأمثال من ليس في القلب فليس بالعين ، شعرت طوال طريقي إلى بيت العم زكريا بحالة اغتصاب فكري تترك الرعب يتناسل أسفل ظهري فتمنيت أن ألمس كل المعاني بيدين قويتين ، وآثرت الاجتهاد في تحديد العلاقة بين أعضاء الجسم والمعنى ، فالدماغ وطن للذكريات وفق فلسفة مراهق كذب لتوه كذبة سوداء، وربما في أصابع القدمين ترقد طاقة الموت منتظرة قدر صعودها قدما إلى أعلى الجسد ومن ثم إلى السماء ، في الكبد تختبئ قدرتنا على عشق أحدهم عندما يشتد العود أما في الصبا فنستعمل الكبد دارا للضحك على الكبار حين يغرقون عشقا ، في أصابع اليدين لربما ترتطم هناك متعة الكتابة مع شعورنا بالحرية ، وقد يقطن الشر بين الحاجبين بكل صلافة ، ولا أدري لماذا اخترت الوجه كبيت واسع لمعنى الأنانية ، كما لم أعثر على دافع اختياري للرئتين كإقامة دائمة لمدة أعمارنا ، وعدت في نهاية اجتهادي إلى اللسان ، فلربما هو آلة الوهن الكامن في اختلاق الحوادث كحالة من التنفيس عن المآزم ، أو تفريجا وخلاصا يتجوهران في ظاهر الحياة اليومية ، وبئت بقلق جديد على قلقي عندما عايشت حالة ما بعد الكذب هذه وهي ترتطم بصخرة الخوف، واستشعرت بسبب عمي زكريا محتوى هذه اللذة المرضية الكامن في ذواتنا ، وهاأنذا أصل إلى بيت عمي الذي قتلته شرة قتلة قبل حين .

لقد انفرج ثقب اللون لتوه فساح الأسود على الأبيض ثم تناثر على الألوان مانحا روحه كغبار هبت عليه ريح الصبا فتلبك وانتشى، على الباب ، على الجدران ، على الشجرة الكبيرة في الحديقة ، على دكة عمي المقلوبة في الفناء ، على المصابيح المطفأة والدرج وقضبان النوافذ وامتد إلى البلاط والسقف فانتحرت الألوان في عيني بسكين السواد، وحضر القلق يرفل في عباءة سوداء من بلاد الحبشة وضمني إليه ضمة جعلتني أتساءل بلسان الكاذب الذي يختبئ في حصون الصدق داخلي "هل الله يقبل أن يتيه ابن آدم كل هذا التيه في عذابات كذبة صغيرة ؟" ، لم أحر جوابا وأنا أعبر بين دفتي باب الدار الرئيسي إلى أن تجاوزت الفناء كسول الخطوة وصولا إلى الباب الداخلي وكررت جهرا "كذبة صغيرة؟" كأنما الوصف عصي على التصديق .
كان الهدوء المطبق على داخل البيت وخارجه لمشجع ومؤنس إلى حد ما ،حتى أن الخطوات التي قطعتها بين البابين كانت تقلل من خفتها حتى وقفت أمام الباب الداخلي آخر المطاف أتمتم بتوتر واستغراب " كذبة صغيرة .. كذبة صغيرة.." وهممت بأن أقرع الباب لولا أن تذكرت عادتي في المجيء إلى دار عمي زكريا ، وكانت العادة أن أضغط على زر الجرس ضغطتين متتاليتين ثم أمسك بقبضة الباب وأعالجها بالمفتاح الذي استنسخه عمي عن الأصلي وأعطانيه، وأدخل مباشرة غير منتظر إذن أحد كأن البيت بيتي، ولكني أقلعت هذه المرة عن فكرة إشعار أهل البيت بقدومي وفتحت الباب بدون قرع أو دق للجرس،كان باطن عقلي ممسك بخطامي ويوجهني حيث يعلم ويشاء، وانقدت إلى الغرفة السفلية حيث يألف عمي المكوث مساء،غير أني لم أجده فيها فأغلقت بابها على نفسي دون ضجة حتى لا تنتبه زوجته قبله لقدومي ، انتشرت راحة باردة في جسمي عندما اختليت بنفسي بين جدران الغرفة، فوضعت محفظة المدرسة بهدوء واستلقيت على السرير الوحيد فيها دون أن أخلع حذائي، كنت متعبا ، وبحاجة ماسة إلى النوم قبل التفكير في أي شيء آخر، بعد أن استرخيت أعجبني الصمت حتى كان لنبض أوردتي حسيس يملئ سمعي نبضة نبضة وسط السكون ، سريعا ما خيم رداء واهن من الكرى حول جفوني وأوشكت على الرقاد ، ولكني بقيت أناشد النوم وسط الصمت في كسل مغمض العينين وهو يلمسني بيد النعاس في دعابة ثقيلة جاءت في غير وقتها دون أن يأخذني مأخذه، تقلبت بين جنبي واضطجعت على ظهر وبطن، النوم يتمنع، فتح أحدهم باب الغرفة فاعترتني رعدة شبيهة برعدة لص يفاجئ ، بقيت مغمض العينين يقظ السمع لا أحرك ساكنا سوى ما يكون من تنفس النائم من امتلاء الصدر وفراغه ،وصلني صرير الباب عندما انفتح شبيها بضجة فوضوية لكمان قديم ، وسمعت صوت ارتطام نعل خف بأقدام تتجه نحوي بهدوء ، اقترب الذي دخل لتوه من السرير ووقف عند رأسي ، ومن الرائحة التي ضربتني عند دنوه مني اكتشفت أنه عمي ، لم أشك لحظة في ذلك، وزدت يقينا من هويته عندما خشخشة مسبحته قرب أذني وهو يتأملني للحظة ، وعاد ذلك الشبح الأسود ينتصب خلف عيوني ويدندن بوقاحة " كذبة صغيرة .. كذبة صغيرة.." ، اضطرب تنفسي عندما امتدت يد عمي لحذائي فحل رباطه وسحب فردتيه بهدوء من رجلاي ومشى بهدوء نحو ركن ما من الغرفة وعاد إلي بخطوات مخنوقة الصوت ثم نشر فوقي رداء رقيقا وغادر الغرفة حتى أني لم أسمع صوت انغلاق الباب خلفه مطلقا.

فتحت عينا دون أخرى ، ولما أيقنت بابتعاده عن ساحتي فتحت الإثنتين ، كانت الساعة الجدارية المشدودة فوق الباب تشير إلى الرابعة مساء ، وهو وقت انصراف المتمدرسين إلى ديارهم ، أبعدت عني الرداء وانتعلت حذائي وقررت المغادرة ، ترددت بادئ الأمر ثم حملت محفظتي وأرهفت السمع خلف الباب فلم أسمع إلا حراك عقرب الساعة يتعجل دورته، جلست على السرير أفكر في ما جرى ، فكرت ثم فكرت تائه النظرة فإذا بالجرس يرن فانفلتت مني روحي من الفزع ، أشحت الستارة عن زجاج النافذة وتحريت الطارق ، يا ألطاف السماوات.. أستاذ التربية البدنية ، ناظر المدرسة ، المقتصد ، اثنان من المساعدين التربويين، مسحت زجاج النافذة لأتأكد من المصيبة ، فتحت النافذة وأطليت بنصف وجه دون أن أشعرهم، ما كذب البصر، وثبت المخشي عندما فتح لهم الباب عمي ، وكان منظر أستاذ التربية البدنية بلحيته الكثة يزيد من آلامي ، ورأيت النفر يتزاحمون في احتضان عمي زكريا ويحمدون الله وعمي مفغر الفاه غريق في محيط الدهشة ، ولم يمنحوه فرصة لفهم الموقف بل استمروا في الحمد والاحتضان ، كان ذلك الشبح الأسود يرسم في الهواء دائرة صغيرة ويسمعني " كذبة صغيرة .. كذبة صغيرة "، أغلقت النافذة وجلست على السرير كمجرم تركوه في غرفة التحقيق فريسة القلق والهم مما ينتظره ، بعد وقت لا أدري أطال أم قصر انقطعت أصواتهم وارتطم بسمعي صوت انغلاق الباب وعلمت علم اليقين أن حظي من الفلفل وافر ، ومن الندم أوفر ، دق عمي الباب دقة خفيفة ليوقظني مثلما ضننته قد توهم ودخل فرآني مطأطأ الرأس لا أقوى على النظر في وجهه ، أغلق الباب ومر إلى كرسي من الكراسي المحيطة بالطاولة المركونة حذو السرير الذي أجلس عليه وجاء به وقعد قبالتي لا يتكلم ، شعرت أن الزمن الذي استغرقه على هيئته وصمته كان أكبر من زمن المعتقل و أكثر إيلاما من أي عقاب يمكن إلحاقه بالمخطئ ، تشجعت ونظرت في عينه ، مباشرة في القرنية البراقة الحاسمة، واكتشفت لأول مرة شدة البياض المحيط بها وابتسمت فابتسم عمي ، ضحكت ، ضحك عمي، سكتت، سكت عمي .
بعد برهة قال :
- لهذه أكبر مزحة مازحني بها أحد ، ماذا أردت من وراء ذلك يا بني؟
تحرك طيف القلق فوق رأس عمي فأعرضت عنه، وكدت أفوه بشيء ولكن صوت المؤذن أعتقني مما لا طاقة لي بتفسيره وقمنا سوية لصلاة العصر ، لم أكن أفكر في ما حدث، بل تساءلت في نفسي " هل يدفعنا الحب إلى الكذب" ؟ ، عندما بلغت هذا الحد من الاستفهام تراءى لي الكذب لونا طفوليا عابرا بين نقطتين، نقطة الحب الصادق لعمي زكريا عند أستاذ التربية البدنية، ونقطة " الكذبة الصغيرة" عندي في موت العم زكريا ، أم ترانا نجد في الكذب إشباعا لنزوة الحب ؟.
__DEFINE_LIKE_SHARE__
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة



الساعة الآن 03:43 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.5.2 TranZ By Almuhajir

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML