إنضمامك إلي منتديات استراحات زايد يحقق لك معرفة كل ماهو جديد في عالم الانترنت ...

انضم الينا
استراحات زايد الصفحة الرئيسية

         :: تفسير حلم الرضاعة للمتزوجة لابن سيرين (آخر رد :نوران نور)       :: أبواب الألمنيوم الخارجية في مصر من الوسولوشن حلّ مثالي للأناقة والأمان (آخر رد :احمد عبدالخالق 15)       :: المواد العطرية من الأراضي (آخر رد :اسماعيل رضا)       :: تفسير حلم اكل البيض المسلوق (آخر رد :نوران نور)       :: الدفن في المنام (آخر رد :نوران نور)       :: مزايا تخزين الاثاث بالخبر (آخر رد :رودى طه)       :: ارخص شركة تخزين اثاث بالقطيف (آخر رد :رودى طه)       :: طرق تخزين العفش بالاحساء (آخر رد :رودى طه)       :: تعليم التجويد (آخر رد :اسماعيل رضا)       :: برامج الرشاقة السعيدة (آخر رد :دارين الدوسري)      

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 10-11-2012, 12:40 AM
عضو ماسي
بيانات محروم.كوم
 رقم العضوية : 503
 تاريخ التسجيل : Dec 2007
الجنس : female
علم الدوله :
 المشاركات : 2,100,612
عدد الـنقاط :3341
 تقييم المستوى : 2139

حرب العصابات... ارنستو تشي غيفارا
قرأت كتاب غيفارا منذ زمن بعيد، عن حرب العصابات بالإنجليزية، اليوم وجدت له ترجمة بموقع الحوار المتمدن فأمضيت اليوم كله بقراءته، أعتقد بأن الترجمة هذه هي الأفضل، لذلك أثرت نقله لملتقى البحرين، لتشابه الحاجات و الظرف الثوري.. لا يمكن وضعة كاملا لذلك سأضعه في أقسام
مقالات عسكرية
حرب الغوار
(
حرب العصابات)

إهداء
نهدي هذا الكتاب إلى ذكرى كاميلو سيانفويغوس[1]. كان مفروضاً أن يعيد قراءته ويُجري فيه التصحيحات اللازمة، إلا أن القدر لم يتح له ذلك. ويمكن اعتبار هذه السطور تكريماً من الجيش الثائر[2] إلى رائده الكبير، إلى أعظم قائد مغاور[3] أنجنبته هذه الثورة، إلى الثوري الناصع، إلى الصديق الأخ.
كان كاميلو رفيق مئة قتال، كان موضع ثقة فيدل في اللحظات العصبية من الحرب، كان المناضل المفعم نكراناً للذات، الذي أتخذ الفداء دوماً أداة لإسقاط طبعه وتصليب طباع الجنود. أعتقد أنه كان قميناً أن يوافق على هذا الكتاب الوجيز الذي جمعت فيه تجاربنا في حرب الغوار[4]، لأنها نتاج الحياة ذاتها. إلا أنه كان خليقاً أن يرفد هذه الصفحات بالحيوية العميقة التي يفيض بها خلقه وذكاؤه وإقدامه، تلك الصفات التي لا تبلغ مثل هذا الكمال إلا في نفر من شخصيات التاريخ.
بيد أنه لا ينبغي للمرء أن يتصور كاميلو كبطل أسطوري، يحقق مآثر خارقة بحافز من عبقريته وحدها. يجب النظر إليه كفيض من الشعب الذي صنعه، على نحو ما يصنع أبطاله وشهداءه وقادته، في الأصطفاء العظيم إبان النضال وظروفه القاسية.
لا ادري هل كان كاميلو يعرف قولة دانتون بصدد الحركات الثورية: "الإقدام، ثم الإقدام، الإقدام أبداً!". على أية حال، كان كاميلو قد مارسها في أعماله بعد أن قرنها بالضرورات الخاصة بالمغاور، وهي تحليل الوضع بدقة وسرعة، وملكة التنبؤ بالمسائل التي يطرحها المستقبل.
وإذا كانت هذه السطور بمثابة تكريم شخصي وتكريم شعب بأسره لبطلنا في آن، فهي لا تستهدف أن تروي سيرته وتقص مآثره، إلا أنني أقول إن كاميلو كان رجل ألف مأثرة، كان يرسلها بصورة طبيعية، إذ كان، إلى جرأته واحترامه للشعب، يجمع شخصيته الخاصة، ذلك العنصر الذي كثيراً ما يُنسى ويُنكر شأنه، والذي كان كاميلو يطبع به كل ما يخصه. إنها الاصالة الثمينة التي قلما تجد رجالاً يدمغون بها كل عمل من أعمالهم. لقد قالها فيدل مرة: لم تأته ثقافته من الكتب، بل كان له ذكاء الشعب الفطري، فاختاره الشعب بين ألف رجل ليرفعه إلى المكانة الممتازة التي تبوّأها بفضل إقدام وصلابة وذكاء واجتهاد لا مثيل لها.
كان كاميلو يمارس الصدق ديناً، وقد نذر نفسه له: الصدق تجاه فيدل الذي يجسد بشخصه إرادة الشعب، والصدق تجاه الشعب ذاته. كانت هاتان العاطفتان لا تنفصمان لدى هذا المغاور الغلاّب، تتلاحمان تلاحم فيدل والشعب.
حرّي بنا أن نتساءل: من الذي أزال كيانه الجسماني من الوجود؟ لأن حياة أمثاله تتمادى في الشعب ولا تنتهي إلا عندما يقرر الشعب ذلك.
إن العدو هو الذي قتله، لأنه كان يبغي موته، لأنه ليس ثمة طائرات مضمونة، لأن ملاحيها لا يستطيعون اكتساب كل الخبرة اللازمة، ولأنه وهو مثقل بالأعمال، كان يريد الوصول إلى لا هابانا[5] بأسرع وقت... وإن ما قتله هو طبعه أيضاً، لم يكن كاميلو يرزن الخطر، كان يستخدمه اللإلهاء، يداعبه، ويثيره كما تثار ثيران الحلبة، يجتذبه ويداوره. ففي عقليته الغوارية لم تكن هناك عثرة تستطيع إيقاف أو تشويه الخط الذي ارتسمه لنفسه.
ذهب عندما كان شعب بأسره قد عرفه وأعجب به وأحبه. كان من الممكن أن يحدث ذلك في وقت أبكر وكانت سيرته عندئذ لن تعدو سيرة أي قائد مغاور. قال فيدل: سوف يجيء كثير من مثال كاميلو، ويمكنني الإضافة أنه ظهر كثير من مثل كاميلو، وقد انتهت حياتهم قبل أن يتموا ذات الدورة الرائعة التي أدخلتهم في التاريخ. إن كاميلو، والكاميلويين الآخرين (الذين لم يحققوا أنفسهم، والقادمين)، هم البرهان على قوة الشعب، والتعبير الأسمى عما يمكن أن تنجبه أمة شاكية السلاح دفاعاً عن أصفى مثلها العليا وعن إيمانها في إنجاز أنبل غاياتها.
لن نثبِّته لنحبسه في قالب، ففي ذلك قتله. لندعه هكذا، على هيئة ملامح، دون تحديد دقيق لفكرانه[6] الاجتماعي والاقتصادي الذي لم يكن محدداً تماماً. ولنتذكر فقط أنه لم يوجد في هذه الحرب التحررية جندي يضارع كاميلو. ثوري مكتمل، رجل شعبي، صنّاع في هذه الثورة التي صنعتها الأمة الكوبية لنفسها، لم يكن عقله ليتصور أقل هنة من الإعياء أو القنوط. إن كاميلو المغاور هو موضوع دائم للتخيل كل يوم. إنه الذي فعل هذا أو ذاك من الأعمال، "شيئاً من كاميلو"، إنه الذي طبع الثورة الكوبية بسمته الدقيقة التي لا تَمحي، والذي يبقى حاضراً في قلوب كل من لم يحققوا أنفسهم والقادمين.
إن كاميلو، في تجدده المستمر الخالد، هو صورة الشعب.

-
تشي غيفارا -







مدخل
إنقضى عام على كتابة هذه المقدمة. ومن نافلة القول إنه لو قدر لي أن أكتبها اليوم لفعلت بشكل آخر. فموت تشي غيفارا في الظروف المثيرة التي نعرف، يكاد يضفي على كل شيء معنى جديداً كل الجدة، وبالتالي على بعض هذه السطور البائسة. وأولها، مثلاً، لحظة، أتصوره فيها يقرأ هذه الصفحات بانتقاده اللاذع الذي عرف عنه عل الدوام، أو السطور التي تتحدث عن رحيله عن كوبا، وقد كتبت عندما كان الأعداء ينشرون عن هذا الرحيل الإشاعات المتجنية، واليوم نعرف أنه في تشرين الثاني 1966 بدأ يكتب يوميّته الأخيرة، في الغوار البولفي. لقد سمع العالم، في ربيع 1967، رسالته الرائعة إلى مؤتمر القارات الثلاث التي سحقت، في جملة ما سحقت، تلك الافتراءات، وأكدت بعد نظرته، وعمق فكره وتلاحمه وشجاعته العجيبة.

تشرين الأول 1967
"
إن الأساس الأول الذي يجب أن تبنى عليه الحركة (حركة الغوار) هو الكتمان المطلق، وإنعدام تسرب المعلومات إلى العدو"، هذا ما كتبه في حرب الغوار الذي ظهر عام 1960، المقدم أرنستو غيفارا، الذي ندعوه في كوبا تشي، للسبب ذاته الذي حملنا على أن ندعو أنتونيوميلا A. Mella الشيكو عندما كان منفياً في المكسيك. إن ما يمنع تشي من أن يرتِّب بنفسه هذه الأوراق ويقدِّم المنشود واقعة أنه انقطع منذ عام لمهمة ثورية جديدة يرافقها، حسب نصيحته هو، "كتمان مطلق" و "انعدام في تسرب المعلومات إلى العدو".
وإذا كان هذا التفسير يبرر هنا غياب اسمه، فلا شيء يبرر، بالمقابل، وجود اسمي، ويؤسفني ألا يكون التواضع التاكتيكي المعتاد في حالات مماثلة هو الذي يحملني على هذا القول. يجب علي، لأسباب سأوضحها في الحال، أن أضع الورقة على الطاولة ولو أدى ذلك إلى ملل القارىء. فإذا كنت قد قبلت دعوة الناشرين لكتابة هذه المقدمة فلأني عوَّلت منذ زمن طويل على المساهمة في نشر فكر العالم الثالث (عدا عن السرور الساذج لأن أرى اسمي يقترن بصورة ما باسم رجل أكن له أكبر الإعجاب)؛ لأن هذا النشر يجب أن يتم في الوقت الذي ندُل فيه على أصالة هذا الفكر، وأخيراً، لأني اقترحت نشر هذه النصوص إذ وجدت نشرها نافعاً، مما أجبرني بصورة من الصور على كتابة هذه الكلمات. إن للقارىء ملء الحق أن يتساءل عن سبب هذه التصريحات. وها إني أقدم له ورقتي الأخيرة. لقد كتبتها على الأخص للمقدم غيفارا، ليرى، عندما يصله هذا الكتاب، أني نبشت أوراقه، فتخيرت منها ما تخيرت وطرحت ماطرحت، بل وقدمت بعض الكلمات. وإني أتخيل بسهولة ابتسامتك وتعليقك. وأسمح لنفسي، أيها المقدم، بأن أجيبك أنَّ ما فعلته كان يجب أن يفغله غيري، وأنك على أية حال ستستاء من هذا الفعل، وأنك، إذا أسفت لغياب نص أو بدا لك غيره عديم الجدوى، فلدي من الأسباب ما يكفي لتبرير هذا الانتقاء. لم أسترسل في هذا العمل بدافع من رأيي وحده، رغم أن هذا الرأي كان، في نهاية المطاف أكثر الآراء مسؤولية: فقد استشرت أصدقاء أفضل مراناً مني في المسائل السياسية (وبعضهم يعرفونك)، حتى انتهى بنا الأمر إلى الإبقاء على هذا الانتقاء. أعدت قراءتها دفعة واحدة فبدت لي جيدة، وبدت لي مجدية.
والآن يجب علي أن أتوجه إلى القارىء: ولد أرنستو غيفارا في بوينوس ايرس، عام 1928، في أسرة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. كان أبوه مهندساً. فثقفه الثقافة المتناسبة مع وضعه: تعلّم لغة ثانية (اللغة الفرنسية) ومهنته رفيعة: الطب، هذه المهنة التي يقول عنها الناس جميعاً ويؤمن البعض إنها كهنوت. قرأ كثيراً، الأدب والسياسة وهو في القناصة، كما قرأ سبنغلر وفرويد. وقد يكون فرويد هو الذي وجهه نحو الطب. كان يرتاد الجماعات الطلابية المتمردة دون أن يناضل في أي اتجاه خاص. وكان قد شعر، حتى قبل أن ينهي دروسه بأن شيئاً آخر يجذبه إليه. مارس الطب في مستشفى للبرص في سانتياغو ديل أستيرو. وأراد أن يتعرف إلى القارة فانطلق لاستكشافها، على دراجة نارية، مع أحد الأصدقاء، وقطعها من الأرجنتين إلى فنزويلا وتوقف في ميامي حيث أعيد إلى الأرجنتين في طائرة كانت تنقل خيول سباق. والأرجح أنه تجلى له في ذلك الوقت ما تجلى لمارتي Marti في زمنه: وحدة بلادنا وحدة عميقة لا تتحطم، وحدة تتجاوز الحدود المصطنعة. والأرجح أنه بدأ في تلك اللحظة يشعر بأميركيته – اللاتينية. وفي البيرو، وغواتيمالا، والمكسيك – ثم في كوبا على الأخص – سيتثبت مما طرحت هذه الأسفار أمام ناظريه: البؤس، والعري والهوية العميقة لأرضنا الهجين.
وإذا كان الوضع الخاص للبلاد التي ولد فيها يبدو له مبهماً وبدفعه للبحث عن سماوات أخرى (كان ذلك أيام البيرونية)، فإن هذه السماوات ستتبناه وستحوله. والغريب أن الذين كانوا يتحدثون إليه، كانوا يجدون أن لهجته ليست أرجنتينية، ولا مكسيكية، ولا كوبية. دون أن تكون بطبيعة الحال، تلك اللهجة الإسبانية المجردة الشاحبة، لهجة بعض أستاذة اللغة في بلاد أجنبية: إنها في الواقع، ما كان أدنامونو يقترح، بالنسبة لقارتنا، في مجال اللغة: فوق الكاستيلانية. فكل واحد منا يعترف بها لغة له رغم أن لديه في الوقت ذاته شيئاً ما من مكان آخر. وهذا المكان الثاني قد لا يكون شيئاً آخر سوى الشمول ذاته، سوى أميركتنا بمجموعها. ألا نستطيع التخمين بأن لغة مارتي الإسبانية يجب أن تكون كذلك؟ لغة لا تصطبغ بالصبغة الكوبية قدر صبغتها الإسبانيةالأميركية؟ (حتى لو كان التأثير الكوبي سائداً. إذ تحدث أوربينا عن لهجته الساحلية).
توقفت عند هذه النقطة لأني أعتقد أن هذه دلالة إضافية على أن "تشي"، كمارتي، يفكر، بل ويشعر أيضاً أنه أميركي – لاتيني ويتكلم كأميركيلاتيني تماماً كما يشعر غيره أنه ينتمي إلى بلد من البلدان أو حتى إلى منطقة من هذه البلاد. لم يكن لديه أي صلف قومي، بل نوع من المرارة القارية المسؤولة: فكل ما يفرقنا كان يبدو له عبثاً حيال المشكلات الواقعية والمشتركة التي يجب أن نعقد العزم على مجابهتها مجابهة واقعية ومشتركة.

في عام 1954 كان أرنستو غيفارا في غواتيمالا. جذبته إليها الإمكانيات الثورية التي كانت تعيشها تلك البلاد. هذه الإمكانيات حصدتها بقسوة جيوش كاستيلو آرماس، أجيرة حكومة أميركا الشمالية. وكانت هذه الحكومة قد تعاونت مع أجرائها في كاراكاس على القضاء على نظام لم يكن (كما نراه اليوم) سوى نظام خجول في تقدميته. كان غيفارا بين أولئك الذين اجتازوا الحدود المكسيكية بعد أن انتظروا عبثاً وصول الأسلحة ليقاتلوا، وبعد أن شعروا في لحمهم بغلظة حكومة لاتدين بمبدأ: هذه الحكومة هي التي قدر لها بعد سبع سنوات أن ترسل مرتزقة آخرين ضد كوبا، وأن تُنزل مباشرة بعد ستع سنين جيوشها في سان دومينيك.. وفي المكسيك كان غيفارا يكسب عيشه من أعمال تافهة، فعمل، مثلاً، مصوراً متجولاً. وفي ذلك الوقت التقى بفيدل كاسترو. وقد روى مقابلته معه كما يلي:
(...
إن كاتب هذه السطور، الذي تقاذفته أمواج الحركات الاجتماعية التي تهز أميركا اللاتينية، قد أُتيحت له فرصة الالتقاء، لهذه الأسباب ذاتها بمنفي أميركي آخر: هو فيدل كاسترو.
"
تعرفت إليه في أحدى الليالي الأميركية الباردة وأذكر أن حديثنا الأول دار حول السياسة الدولية: ففي ساعات الصباح الأولى، كنت واحداً من الغزاة المستقليين". (ذكريات من الحرب الثورية).
وقال أيضاً: "كان الأمر يستحق أن أموت على شاطىء أجنبي في سبيل مثل أعلى طاهر كهذا المثل" أما بقية حياة تشي فهي من شأن مؤرخي القارة أكثر مما هي من شأن كاتبي السير الشخصية. وبعد أن تدرب تشي في المكسيك رحل إلى كوبا في أواخر عام 1956. فكان واحداً من الـ 82 رجلاً الذين نزلوا في غرانما. ولحسن حظنا أنه لم يكن واحداً من أبرز الشخصيات في تلك المأثرة فحسب، بل كان مؤرخها الأول، وهو أمر يجعل من العبث أن أذكر هنا تلك اللحظات التي وصفها وصفاً مدهشاً. أضف إلى هذا، أن لحظة النزول ذاتها كانت مادة لعمل أدبي عظيم: قصة جوليو كورتازار "اجتماع" التي أخذها عن رواية تشي، "أليغريا دي بيو Alegria de pio وعندما انتصرت الثورة في أول كانون الثاني 1959، برز تشي كأحد أوائل الزعماء، رغم إصابته بالربو المزمن، والمسؤول الذي قاد (مع كاميلو سيانفويغوس) غزو كوبا حسب أوامر فيدل كاسترو.
يجب أن ألفت الانتباه إلى بعض الأسفار التي قام بها تشي بعد انتصار الثورة. كان يعرف – كما قال هو نفسه عام 1961 في جامعة مونتيفيديو – جميع بلدان أميركا اللاتينية تقريباً. في عام 1959 زار بلداناً أخرى: ليرى مشكلاتنا "من الشرفة الآسيوية – الأفريقية": الجمهورية العربية المتحدة، وأندونيسيا، والهند.
لقد انفتح عالمه، وصار بإمكانه أن يثبت من تماثل المشكلات لا في بلدان قارتنا فحسب، بل في القارات الثلاث النامية أيضاً. بيد أن الثورة الكوبية أسرع في مسيرتها وأعمق من ثورات هذه البلدان الأخرى: فقد تحولت عام 1960 إلى ثورة اشتراكية. وسافر تشي، في نهاية العام، إلى البلدان الاشتراكية. وتأكد فيها من قيام رابطة جديدة مع البلدان التي تبني الاشتراكية كبلادنا، وخاصة تلك التي تنطلق، مثل كوريا، من شروط التخلف الصناعي واضطرت لأن تدفع ثمناً رهيباً للاعتداءات. وعندما عاد بين سنتي 1964 و 1965 إلى البلدان النامية (إلى أفريقيا على وجه التحديد) عاد ممثلاً لثورة من ثورات العالم الثالث: ثورة يذوب فيها الخطان الكبيران لتجديد هذا العصر: ثورة ترتبط بالكفاح ضد الاستعمار وتصدر عن ثورة أوكتوبر وبديهي أن هذه الأسفار كانت أكثر من مجرد تنقلات: إنها علامات مرئية لفكر سيشرحه تشي شيئاً فشيئاً وبوضوح كبير.

ولقد بدأ هذا الفكر يعبَّر عن نفسه علناً منذ الأيام الأولى، في خطابه بتاريخ 28 / 1 / 1959، مثلاً، الذي نشر تحت عنوان "الدور الاجتماعي للجيش المتمرد".
في هذا الخطاب، يشرح لنا تشي كيف بدأت في الجيش المتمرد، انطلاقاً من فشل إضراب نيسان 1958، الجهود الأولى لإعطاء الثورة عقيدة ونظرية. بيد أن هذه الاهتمامات، بطبيعة الحال، لا تتضمن أبداً أن يكون تشي باحثاً نظرياً محضاً. فهو يقول في هذا الخطاب ذاته إن من أكبر صفات الثورة التي استولت لتوها على الحكم هو أنها "حطمت جميع نظريات الصالونات". ولا ينوي مطلقاً إعاداتها إلى ما كانت عليه. إن هدفه يختلف عن هذا اختلافاً تاماً، فيكتب في الصفحات الأولى من حرب الغوار (1960): رسالتنا الحالية أن نجعل من الواقعات نظرية، وأن نبني هذه التجربة ونعممها ليستفيد منها الآخرون" هذا التعريف لا بديل له فكومة الواقعات الثورية، بالنسبة للمراقب الذي تعوزه الدقة، حتى لو كان نصيراً مندفعاً، تحتاج لأن تكون لها بنية وأن تعمَّم. إنهما مهمتان نظريتان، تصلحان لما دعاه التوسر Althusser وبحق الممارسة النظرية: يجب أن نفكر في المعطيات لنستخلص منها صورة، ويجب أيضاً أن نميز الحادث الموضعي عن التجربة القابلة للتعميم. والأعداء يعون ذلك بطبيعة الحال: فهم يقترحون بسرعة على الثورات وجهاً خالياً تماماً من الجاذبية، زاعمين أنهم يعممون الأوجه المحلية السلبية بينما يتظاهرون بأنهم لا يرون في النجاحات الجوهرية سوى واقعات عارضة أو ثانوية. إن عمل تشي، إذاً، رسالة مكافحة لا تستسلم لنظريات الصالونات بل تتجه نحو النتائج العملية وتنطلق من مادة بناء هي أيضاً عملية وعاجلة وكانت الثورة الكوبية قد أثبتت، عام 1959، وجود طريق لإسقاط الأنظمة الدكتاتورية في المستعمرات الخفية الأميركية اللاتينية. وكان من ضروري شرح مضمون هذا الطريق وتقديم نتائج مثل هذه التجربة للمحاربين القادمين: ذلك هو الأمر الذي كرس له تشي جزءاً كبيراً من جهوده خلال تلك السنة الحافلة بالعمل على وجه خاص، وكان نتاجها حرب الغوار الذي أعلن عن نفسه في مقال شباط 1959، "من هو المغاور؟". وفي السنوات التالية رأى ضرورياً أن يُجعل ذلك الكتاب من شؤون الساعة. فأدخل أفكاراً جديدة إلى كتابه "حرب الغوار، طريقة". وكان يريد أن يعيد كتابته إذ كان يضم تجارب أحدث عهداً. ومع ذلك فإن هذه الكتابة "يجب أن تنتظر بالتأكيد زمناً طويلاً"، كما ذكر لينين في نهاية كتابه الدولة والثورة، لأن تشي ارتأى هو أيضاً "أن من الأفضل والأجدى أن يعيش تجربة الثورة بدلاً من أن يكتب عنها".
إن القصد الذي يدفع تشي إلى التساؤل عن نظرية الثورة في تنميتها ليس أقل قيمة عملية. لكن قبل أن نتحدث عنه، يحسن بنا أن نشير هنا إلى كتاب آخر يتعلق بحرب الغوار من جهة أخرى: هو كتاب "ذكريات عن الحرب الثورية". لم تكن الاعتبارات الفكرية وحدها هي التي دفعت تشي إلى كتابته بذلك الأسلوب النثري العجيب الذي عرف عنه، الأسلوب الجامع المألوف، بل يجب القول أيضاً إنه الفنان الذي يكتب. ونحن هنا لا "نعمم"، بل نضع اليد، والذاكرة على شيء ملموس. وإذا كان الكتاب السابق دليلاً للعمل وهيكله العظمي، فإن الذكريات هي الجسم ذاته لذلك العمل، مع كائنات بشرية بطولية أو مترددة، سامية أو حقيرة – حقيقية في أية حال. إنه أكثر الكتب التي نشرت في كوبا في هذه السنوات الأخيرة، وقعاً في النفس.
إن الكتابين اللذين يعالجان الحرب الثورية – نظريتها وممارستها، إذا صح القول – هما الكتابان الوحيدان اللذان كتبهما تشي بصفتهما كتابين بنائين. لكنهما لم يكونا كل ما كتب تشي – وقال. بالعكس: اهتم منذ البداية بالأوجه الأخرى للثورة، وعبر عن هذه الاهتمامات سواء بشكل خطب، أو بشكل مقالات أو محاولات. وعالج، في كتبه، مسائل تتعلق بالتمرد، أي بالثورة قبل أن تستلم الحكم، في أول كانون الثاني 1959، وتصدى في خطبه ومقالاته، بصورة عامة، للمشكلات التي كانت تعترض الثورة بعد تسلمها الحكم. ولم تكن هذه المشكلات، من وجهة نظر فكرية، أقل تعقيداً من سابقاتها، ويحق لنا أن نعتقد أنها أكثر تعقيداً وتتطلب من القادة دأباً كبيراً في التخمين النظري وفي التطبيق العملي المناسب. وكان هؤلاء القادة، من جهة أخرى، قد وصلوا إلى السلطة في ريعان الشباب. فلم يكن فيدل كاسترو نفسه، عام 1959 يتجاوز الثلاثين من العمر إلا قليلاًُ. وسيقدم لنا هؤلاء الرجال مشهداً غير معتاد: فبدلاً من أن يعيش هؤلاء الشباب طي الكتمان تطوراً فكرياً قلما يكون غيرهم مطلعاً عليه لحظة العمل التاريخي، سيتطورون على مرأى ومسمع من الجميع. وسينهون تكوينهم عراة الجذور. لا لأنهم وصلوا إلى السلطة دون صفات كافية – للتثبت من الصلابة التي انطلقوا بها إلى القتال. نعيد إلى الذاكرة فقط الدفاع الرائع الذي ألقاه فيدل كاسترو عام 1952. "سينصفني التاريخ"- ، بل إن هذه الصفات ستنضج في الحكم، بمجابهة المشكلات الجديدة الهائلة. وسط واقع معقد، دولي وقومي على السواء، سيكون من الواجب جلاء غوامضه واحدا بعد الآخر. فكان السؤال الأول الذي وجب إذاً أن يطرحوه على أنفسهم هو ما هي الثورة. ما هي النظرية الثورية لهذا العمل الثوري؟
قال فيدل كاسترو، عام 1953، إن المسؤول المثقف عن الهجوم على ثكنة مونكادا - وبالتالي عن الأحداث التي سيثيرها هذا الهجوم في السنوات التي أعقبته – كان جوزيه مارتي. وقال تشي غيفارا الذي كان يعلم عام 1959 أن هذه الثورة تنقش في إطار مكافحة الاستعمار المعاصرة، في خط البلدان النامية، قال في بداية 1960، في 28 كانون الثاني:
"
كان مارتي المرشد المباشر لثورتنا، الرجل الذي كان يجب على الدوام أن نرجع إلى كلامه لتفسير الظاهرات التي نحياها تفسيراً صحيحاً. لأن جوزيه مارتي أكثر من كوبي: إنه أميركي. إنه ملك البلدان العشرين كلها التي تضمها قارتنا.. ويعود لنا الشرف بإحياء كلمات جوزيه مارتي، في وطنه، حيثما ولد". كان تشي يخمن دون شك بأن مارتي هو أول مفكر في العالم الثالث ويصح هذا التصريح، إذ يؤكد ما قاله كاسترو قبل ذلك بست سنوات، لثورة من ثورات البلدان النامية. بيد أن ثمة أمراً آخر في هذه الكلمات يستحق أن نعيره انتباهنا هو استخدام الماضي. قال تشي: كان مارتي مرشدنا وكان يجب الرجوع إلى كلامه.. لا لأنه أنكر هذا الكلام، بل بالعكس. وكلامه، كان يجب أن نتذكر أنه نصحنا هو ذاته بأن نفعل "في كل لحظة ما هو ضروري في كل لحظة". وكان الواقع، أخيراً، قد طرح على ثورتنا التي كانت قد وصلت إلى الحكم مشكلات لا يمكن أن تكون بالضبط هي ذاتها المشكلات التي طرحت على مارتي، يوم لم يكن قد توصل إلى أن يرى بلاده حرة سياسياً. كانت هذه المشكلات المختلفة تتطلب منا أن نتصدى لها تصدياً أصيلاً. وكانت، بالتالي تقتضي منا إضفاء النظرية على هذه المقاربة التي لم تعد تلك التي عرفها مارتي. فمنذ استلامها السلطة كانت الثورة تتأصل في تبادل مأساوي للأعمال التأديبية الأميركية الشمالية والردود الكوبية. وقد استطاع تشي أن يقول إن القانون الأول للإصلاح الزراعي كان على الأرجح التدبير الوحيد الذي اتخذ مباشرة دون أن يكون جواباً على عدوان أميركيشمالي. وفيما بعد، بدءاً من المقاومة العنيدة التي وجهتها الولايات المتحدة لهذا القانون الذي كانت كوبا تمارس به سيادتها – والذي يكاد يكون فاتحة أعمالها - ، ستكون القرارت الكبرى التي اتخذتها الحكومة الثورية هجمات كوبية مضادة للاعتداءات الأميركية، وقد بدأت هذه الاعتداءات بشكل حملة صحفية شعواء تبعتها تصريحات رسمية حتى وصلت إلى العدوان المادي وإلى الحصار، مروراً بما سبقه من وقف مشتريات السكر ورفض تكرير النفط الذي تشتريه كوبا من خارج الدائرة الأميركية الشمالية. وفي هذه الأثناء، وجدت الثورة الكوبية في الاتحاد السوفياتي سوقاً لسكّرها، ولقيت المساندة الحازمة من الطبقات الشعبية كما لقيت في البداية التباعد المطرد ثم العداء المكشوف مما كان يدعى البرجوازية الوطنية التي ارتبط مصيرها بمصير الولايات المتحدة. ليس ثمة أي شك بأن الثورة الكوبية، إذ وُضعت أمام أحد أمرين: أن تهلك بيدي الولايات المتحدة أو أن تتأصل بسرعة، قد اختارت هذه الإمكانية الثانية. وارتفعت أصوات الناقدين الكبار في العالم أجمع أنهم كانوا يعلمون بأن الثورة شيوعية. لقد كانوا يرون، في الواقع. ما لو توفر للعالم الاجتماعي روبرت ك. مرتون لاستخدمه مثالاً على "النبوءة المنجزة ذاتياً". وعندما نتجت بفعل الولايات المتحدة قضية شراء السكر الكوبي ورفض تكرير البترول السوفياتي في كوبا، وعمدت كوبا من جانبها إلى تأميمات مصافي التكرير الأميركية الشمالية في الأرض الكوبية، قال تشي، بتاريخ 28 تموز 1960، في مؤتمر الشبيبة المنعقد في هافانا:
"...
إذا سئلت ما إذا كانت هذه الثورة التي ترون ثورة شيوعية... فسأقول إن هذه الثورة، إذا ما صارت ماركسية – وأقول ماركسية – فلأنها اكتشفت أيضاً، بأساليبها الخاصة، الطرق التي أشار إليها ماركس".
إثر هذا الاكتشاف، وجواباً للإدانة التي فرضتها على كوبا منظمة الدول الأميركية، في سان جوزيه، قرأ فيدل كاسترو على الشعب الذي اجتمع في تلك المناسبة في ساحة الثورة بتاريخ 2 ايلول 1960 ما وجب أن يصير تصريح هافانا الأول. وقد عبر هذا التصريح تعبيراً مضمراً عن الصفة الاشتراكية التي أخذتها الثورة على عاتقها. بعد ذلك بما ينوف عن الشهر، في 8 تشرين الأول، نشر تشي مذكراته بعنوان "مذكرات لدراسة إيديولوجية الثورة الكوبية"، وهي دراسة عميقة للموضوع. فهل أفسدت الصفة غير المهذبة في ظاهرها التي التصقت بالثورة المبدأ اللينيني القائل: لا حركة دون نظرية ثورية؟ ويجيب تشي متسائلاً:
"
يحسن القول إن النظرية الثورية، كتعبير عن حقيقة اجتماعية، تسمو على كل بيان، وبعبارة أخرى، أن الثورة يمكن أن تتم إذا فسرنا تفسيراً صحيحاً الواقع التاريخي واستخدامنا استخداماً ملائماً القوى التي تتدخل في هذا الواقع، دون أن نعرف النظرية... يجب أن يكون المرء "ماركسياً" بالبساطة ذاتها التي يكون فيها "نيوتونياً" في الفيزياء و "باستورياً" في البيولوجيا، وبما أن الواقعات الجديدة تحدد مفاهيم جديدة، فإن ذلك لا ينزع أبداً جانب الحقيقة من المفاهيم التي أنقضت... يعني هذا، ويجب أن نشير إليه مرة أخرى، أن قوانين الماركسية حاضرة في أحداث الثورة الكوبية، بصورة مستقلة عن واقعة أن قادتها يجاهرون بهذه القوانين أو يعرفونها معرفة عميقة من الناحية النظرية".
لقد توقفت عند هذه الإستشهادات، إلا أني أعتقد أنها تظهر بأكبر قدر من الصفاء والوضوح كيف أُعِد فكر الثورة الكوبية إعداداً تدريجياً، دون تخطيطات مبسطة قبلية، وكذلك دون خوف مما قد يلصق بها. وقد نشأت، من جهة أخرى، لدى فيدل أولاً، ولدى غيره من القادة الكبار أيضاً، إرادة إبعاد كل تضليل لغوي يدفعهم إلى رفض العبارة النمطية الجامدة لمصلحة الاقتراب من الواقعة عن طريق الشرح، ويمضي حتى يرتدي شكل الخطاب التعليمي الطويل الذي يلقيه فيدل كاسترو والذي تحدث عنه سارتر. إن القول أن كوبا تمضي في طريقها لإقامة ديكتاتورية مثلاً لن يفيد شيئاً كثيراً بل قد يزعج المراقب قليل الحذر. فالأفضل أن نشرح ما يجري فيها. وعندما تتلقى هذه الواقعة، بصورة لاحقة، اسماً، فسيكون هذا الاسم غنياً في مغزاه بدلاً من أن يكون صيغة جوفاء رنانة أو يحدث ارتكاسات انفعالية متأصلة الجذور تستطيع الممارسة وحدها توضيحها. وهكذا لم نقم بالثورة الاشتراكية إلا بعد أن اتخذت الثورة الكوبية تدابير اشتراكية، عام 1960، خاص في نصف الثاني منها، مدفوعة بالواقعات ذاتها، حتى بعد أن قوبلت بحماس عدالة هذه التدابير لدى صدور تصريح هافانا الثاني، والتي أكدها فيدل كاسترو، عشية الغزو، في 16 نيسان 1961. في تلك الفترة شرح تشي في نص جوهري ("كوبا، شذوذ تاريخي، أم طليعة الكفاح ضد الاستعمار"، (نشر بتاريخ 9 نيسان 1961)، أصالة الثورة الكوبية، الحركة التي اتبعت، رغم أنها "مارقة إلى حد كبير بأشكالها وبمظاهرها – ولم يكن بمقدورها إلا أن تتبع – الخط العام لجميع أحداث القرن التاريخية الكبرى، المتميزة بالنضالات المعادية للاستعمار وبالانتقال نحو الاشتراكية". ويعترف تشي بالعوامل الاستثنائية النادرة لثورتنا ("من بينها العامل الأول، والأهم، وربما الأكثر أصالة، تلك القوة الطبيعية المسماة فيدل كاسترو روز"؛ ومنها أيضاً "أن الإمبريالية الأميركية الشمالية قد ضللت ولم تستطع قط أن تقدر الأبعاد الحقيقية للثورة الكوبية") لكنه يشير بخاصة إلى "أن الجذور الدائمة لجميع الظاهرات الاجتماعية في أميركا، والتناقضات التي تنضج في داخل المجتمعات الراهنة، تثير تحويلات يمكن أن تبلغ مدى ثورة كالثورة الكوبية". في هذا النص يبلغ الفكر السياسي لدى تشي غيفارا درجة النضج. وانطلاقاً من هذه اللحظة، سنراه يتحدث في خطبه الدولية الكبرى، خطبه في بونتاديل إيسته، وجنيف، والأمم المتحدة، أو الجزائر، كناطق فوق العادي باسم العالم الثالث. إن الثورة الكوبية لم تكِّون فكراً دون أن تكِّونه في الوقت نفسه للبدان الأخرى التي تجتاز ظروفاً مماثلة لتلك التي تمر فيها كوبا: وفي طليعتها بلدان أميركتنا، وكذلك بلدان قارتين أخريين ناميتين.
وإذا كانت الثورة الكوبية قد وجدت بمساعيها هي فكراً أصيلاً، فإن ذلك الأمر يقتضي منا أن نجابه بهذا الفكر جملة من المشكلات، ستحمل بدورها هذا الفكر على الأغتناء. وسيكون تشي الممثل والشاهد الاستثنائي لهذا التفاعل في بناء الاشتراكية اليومي في بلد نام.
هذا الطبيب التائه الذي أقنعه فيدل كاسترو، في ليلة باردة من ليالي المكسيك، بأن يرافقه لتحرير بلاده، هذا المغاور الذي كلفه فيدل بشن الحرب الثورية من أول الجزيرة إلى آخرها، هذا المحول الذكي الذي حول الممارسة العملية إلى نظرية، هو الذي سيوكل إليه فيدل بعد تسلم السلطة مراكز رئيسية في الحكومة. أولاً رئاسة البنك الوطني، لإدخال الاستقرار على الوضع الخطير للقطع النادر، ثم وزارة الصناعة المكلفة بتنسيق وتكبير الصناعة التي أممت فجأة في بلد قليل التنمية، والذي قُطع، بالإضافة إلى هذا، قطعاً فظاً عن المصدر الذي يكاد يكون المصدر الوحيد للمنتوجات المصنوعة. كانت القضية أن تظل الأمة واقفة على قدميها وأن تكون في حالة تمكنها من العمل.
كان على تشي أن يتصدى لمشكلات اقتصادية ملموسة في سبيل إنجاز هذه المهام الجديدة التي سيخرج منها أيضاً ظافراً. فالثورية، بطبيعة الحال، لا تأتي جاهزة: أنها على الدوام سلسلة من المهام التي يجب على الناس تحقيقها، تحقيقاً حسناً أو سيئاً. ولا توجد صيغ يجب تطبيقها بصورة آلية. إن الثورة تثبت، بمعنى مختلف عن المعنى الذي فكر به كروتشه Croce، أن التاريخ هو فعلاً "مأثرة من مآثر الحرية". فأمام كل مشكلة جديدة تنبجس المسألة اللينينية: ما العمل؟ ولا جدوى من البحث عن الجواب في أي كتاب. بل يجب أن يأتي الجواب، كما نصح لينين بالذات، من "التحليل الملموس للأوضاع الملموسة". فتشي يجد نفسه إذاً مرغماً على أن يأخذ بعين الاعتبار وقائع مثل طبيعة التخطيط الاشتراكي، تبعاً لوضع كوبا الملموس، وحسب الصلة الديناميكية لهذا الوضع مع العالم أجمع، ويستنتج من هذا التحليل مميزات نظام التمويل في الميزانية على الحساب الاقتصادي، وهذا يجره إلى مهاترات سياسية مع شارل بيتلهايم ذاته. وللأسباب ذاتها يصر على أولوية الحافز الأخلاقي على الحافز المادي إذا أردنا حقاً بناء مجتمع اشتراكي، لكنه طبعاً لا يقول بالحافز الأخلاقي حصراً: فنحن لا نرى كيف يمكن التوصل إلى هذا المجتمع الاشتراكي إذا حرضنا لدى الناس الشهوات التي تقوم عليها الرأسمالية. وليس هذا ما يقترحه تشي: "لا ننكر الضرورة الموضوعية للحافز المادي، لكننا نرفض فعلاً أن نستخدمه كدافع أساسي" ("حول نظام الميزانية..."). وبالمقابل، ليس من الخيال في تشي، بل لا بد منه لهذا البناء الجديد أن نحفز الإنسان إلى اتخاذ موقف جديد تجاه العمل")، موقف يتيح تطمين شاعر تشي المفضل، ليون فيليبه L. Felipe، الذي رأى بقلق تعارض العمل واللعب. فهل من الضروري أن نصر على الانفعال الذي نعانيه ونحن نرى هذا الرجل، هذا تشي يبدأ خطاباً في عمال مثاليين وينشد أبياتاً للشاعر الإسباني الكبير؟ إن ما لم ينسه تشي أبداً، وهو غارق في عمله، أو في نظرياته، هو الغائية الحقيقية لثورة ما: خلق كائن بشري أفضل، "إنسان جديد"، حسب تعبيره هو. وإذا كان تشي يناقش قانون القيمة، وخطر البيروقراطية، والإطار الثوري، وصفات الشيوعي الشاب، وبناء الحزب، فهذه الفكرة هي التي تجوب شواغله كلها. ما أهمية عنف العمل أو ضحالة الفكرة، فهذه أو ذاك، لدى الثوري، مسخّران لخدمة الإنسان. وإذا كان الأعداء يستطيعون طمس هذه الحقيقة، فإن واجب الثوريين، أن يرددوها ويشرحوها.
"
إن وزن هذا البناء، بناء العقل الإنساني ] كتاب رأس المال[ يبلغ حداً يجعلنا ننسى في الغالب الصفة الإنسانية (بالمعنى الأفضل للكلمة) لقلقه... فالإنسان هو الذي يهمنا الآن... كان ماركس يفكر بتحرير الإنسان، وكان يرى الشيوعية حلاً للتناقضات التي أنتجت انحطاطه..."
وقد بلغ هذا الموقف الذي وقفه تشي تعبيره الأصفى والأوضح في النص الأخير الذي كتبه قبل رحيله عن كوبا في الرسالة الرائعة التي وجهها إلى كارلوس كويجانو، مدير الصحيفة الأسبوعية مارشا، والتي نشرت تحت عنوان "الاشتراكية والإنسان في كوبا": لقد كانت، بمقدار ما، تلخيصاً، وحصيلة. وعندما نشر هذا النص في كوبا (وأذيع على نطاق واسع جداً) كان تشي قد غادر البلاد.
يستحيل أن نتجنب في هذه الصفحات المسألة التي يطرحها كثير من الناس في العالم أجمع والمتعلقة بتشي: لماذا غادر كوبا؟ أعتقد أن على هذه المسألة أن تدخل في حسابها أموراً عديدة: هي أن تشي فعلاً أميركي – لاتيني، مثل الفنزويلي سيمون بوليفار،والأرجنتيني جوزيه دوسان مارتان، والدومينيكي ماكسيمو غوميز – أو المارتينيكي فرانتز فانون الذي كان تشي يحبه كثيراً – الذين ناضلوا كلهم في سبيل بلاد أخرى غير تلك التي ولدوا فيها، وغالباً في سبيل عدة بلدان، وأن كوبا هي واحدة من بلدان عديدة في أميركا اللاتينية التي عاش فيها تشي، وأن الثورة الكوبية هي إحدى ثورتين أمركيتين – لاتينيتين اشترك فيهما تشي (الثورة الثانية هي الثورة الغواتيمالية)، وأنه ما يزال في أميركا اللاتينية – وفي العالم النامي بصورة عامة – كثير من الثورات تنتظر التفجير. وأن هذه الثورات الجديدة التي تطالب الشعوب بها بإلحاح هي كالثورة الكوبية فصول لثورة واحدة. وفي عام 1959، عندما نزل الجيش المتمرد من الجبال كان الناس البسطاء في كوبا مقتنعين أن تشي سينطلق بين لحظة وأخرى للاشتراك في تحرير بلد آخر مستبعد. بيد أن الثورة الكوبية التي بدأت لتوها كانت بحاجة إليه لتوطيد كيانها. وكان آنذاك مثالاً للعامل المتفاني، وبطل البناء. وبعد ست سنوات، عندما خاضت هذه الثورة معركتها الأولى، وعندما عرفت جيرون، وتطهير إيسكامبري، وأزمة تشرين أول، عندما نظمت معاملها وأريافها على أساس الإنتاج من أجل الشعب، اعتبر تشي أن هنالك "أراضي أخرى في العالم" بحاجة أمس إليه.
إن أولئك الذين يتهمون الثوريين بأنهم تقييديون بشكل أعمى هم أول من يرفض عنصر الحرية. والجدة، والإبداع في التاريخ. فما أن رأوا تشي يغادر كوبا حتى نبشوا من القبر أزواجاً شهيرة زعموا استخدامها لتجنب التفكير في ظاهرة لم يتوقعوها وفهم هذه الظاهرة، فالعاطفيون أخذوا يتحدثون عن بوليفار وسان مارتان، وسيِّئو النية اقترحوا أسماء أخرى.. الحقيقة أن التاريخ يمتلك الآن تشاركاً جديراً لا تستطيع التشاركات السابقة تفسيره بأي شكل ولا تستطيع رده إلى تبسيطات سابقة: إنه فيدل كاسترو وأرنستو غيفارا. وإنه لأمر رائع أن نرى كم يكمل هذان الرجلان أحدهما الآخر: فمن جهة الهزة البركانية للرجل الذي يعتبره تشي ذاته "تلك القوة من قوى الطبيعة المسماة كاسترو روز" ومن جهة أخرى تلك الرغبة الجامحة لدى تشي في صنع المفاهيم. إن اللحظة التي تتداخل فيها هاتان الوظيفتان – واللحظة التي نعيشها واحدة منهما – ليست أقل ما في هذا الحوار من جمال: فنحن نرى فيدل يثبت فكره ( وهذا يقوده إلى الدخول في مهاترات من أجل توضيح فكره) لأنه على وجه الضبط الزعيم الأول للثورة ونرى تشي يندفع في العمل، ليكون مرة أخرى، أميناً لنظريته. وهكذا يسعد الثورة الأميركية – اللاتينية الحالية أن يكون على رأسها رجلان يختفي لديهما التفرع الثنائي القديم الرأس المفكر – والذراع المسلح، ويذوب في واقع جديد ملتهب. فلماذا قرر أحد الرجلين، ذاك الذي لم يولد في كوبا لكنه خدمها خدمة لم يؤدها إلا القلة من الكوبيين، أن يعود من جديد إلى القتال، في سبيل حرية أرض أخرى هذه المرة؟ إن القراء لا يملكون كما لا أملك أنا معطيات كافية للإجابة. بيد أن الرجل الذي يستطيع التحدث عن هذا الموضوع، في الوقت الأنسب: فيدل كاسترو، قال في ختام مؤتمر القارات الثلاث الذي يجسداً تجسيداً رائعاً المثل الأعلى لفيدل وتشي على السواء:
"
إنضم إلينا الرفيق غيفارا عندما كنا منفيين في المكسيك. ومنذ اليوم الأول لم تكن تفارقه الفكرة التي عبر عنها بوضوح، وهي أنه عندما ينتهي الكفاح في كوبا، فإن عليه واجبات أخرى يجب أن يقوم بها في أمكنة أخرى، ولقد قطعنا له على أنفسنا وعداً بأننا لن نطلب منه البقاء في بلادنا، من أجل أية مصلحة للدولة، وأية مصلحة قومية، وأي ظرف، ولن نمنعه من تحقيق هذه الرغبة أو هذه الدعوة. وقد وفينا وفاء تاماً مخلصاً بهذا الوعد الذي قطعناه. للرفيق غيفارا."

روبرتو فرناندزريتامار
لاهافانا، تشرين الأول 1966
__DEFINE_LIKE_SHARE__
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
حرب العصابات... ارنستو تشي غيفارا محروم.كوم منتدى أخبار المواقع والمنتديات العربية والأجنبية 0 10-11-2012 12:30 AM
لعبة العصابات العربية yassouf العاب , فكاهه , مسابقات 1 05-11-2011 02:37 PM
جديد: لعبة العصابات العربية yassouf ألعاب الكمبيوتر , العاب الكترونية 3 04-01-2011 05:22 PM
لعبة العصابات العربية yassouf العاب , فكاهه , مسابقات 0 03-30-2011 02:35 AM
لعبة العصابات؟!! ابكي زمان بكاني الحوار والنقاش - الرأي والرأي الآخر 10 05-26-2008 10:30 PM


الساعة الآن 03:37 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
Content Relevant URLs by vBSEO 3.5.2 TranZ By Almuhajir

RSS RSS 2.0 XML MAP HTML